القول في تأويل قوله ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ( 53 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " وكذلك فتنا بعضهم ببعض " وكذلك اختبرنا وابتلينا ، كالذي : -
13289 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر وحدثنا الحسين بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة : " وكذلك فتنا بعضهم ببعض " يقول : ابتلينا بعضهم ببعض .
وقد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على معنى " الفتنة " وأنها الاختبار والابتلاء ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . [ ص: 389 ]
وإنما فتنة الله - تعالى ذكره - بعض خلقه ببعض ، مخالفته بينهم فيما قسم لهم من الأرزاق والأخلاق ، فجعل بعضا غنيا وبعضا فقيرا ، وبعضا قويا ، وبعضا ضعيفا ، فأحوج بعضهم إلى بعض ، اختبارا منه لهم بذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
13290 - حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : " وكذلك فتنا بعضهم ببعض " يعني أنه جعل بعضهم أغنياء وبعضهم فقراء ، فقال الأغنياء للفقراء : " أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " يعني : هداهم الله . وإنما قالوا ذلك استهزاء وسخريا .
وأما قوله : " ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا " يقول تعالى : اختبرنا الناس بالغنى والفقر ، والعز والذل ، والقوة والضعف ، والهدى والضلال ، كي يقول من أضله الله وأعماه عن سبيل الحق ، للذين هداهم الله ووفقهم : " أهؤلاء من الله عليهم " بالهدى والرشد ، وهم فقراء ضعفاء أذلاء " من بيننا " ونحن أغنياء أقوياء ؟ استهزاء بهم ، ومعاداة للإسلام وأهله .
يقول - تعالى ذكره - : " أليس الله بأعلم بالشاكرين " وهذا منه - تعالى ذكره - إجابة لهؤلاء المشركين الذين أنكروا أن يكون الله هدى أهل المسكنة والضعف للحق ، وخذلهم عنه وهم أغنياء وتقرير لهم : أنا أعلم بمن كان من خلقي شاكرا نعمتي ، ممن هو لها كافر . فمني على من مننت عليه منهم بالهداية ؛ جزاء شكره [ ص: 390 ] إياي على نعمتي ، وتخذيلي من خذلت منهم عن سبيل الرشاد ؛ عقوبة كفرانه إياي نعمتي ، لا لغنى الغني منهم ولا لفقر الفقير ؛ لأن الثواب والعقاب لا يستحقه أحد إلا جزاء على عمله الذي اكتسبه ، لا على غناه وفقره ؛ لأن الغنى والفقر والعجز والقوة ليس من أفعال خلقي .