القول في تأويل قوله ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ( 83 ) )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بقوله : " وتلك حجتنا " قول إبراهيم لمخاصميه من قومه المشركين : " أي الفريقين أحق بالأمن " أمن يعبد ربا واحدا مخلصا له الدين والعبادة ، أم من يعبد أربابا كثيرة ؟ وإجابتهم إياه بقولهم : " بل من يعبد ربا واحدا أحق بالأمن " وقضاؤهم له على أنفسهم ، فكان في ذلك قطع عذرهم وانقطاع حجتهم ، واستعلاء حجة إبراهيم عليهم . فهي الحجة [ ص: 505 ] التي آتاها الله إبراهيم على قومه ، كالذي : -
13513 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا ، عن رجل ، عن سفيان الثوري مجاهد : " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " قال : هي " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم " .
13514 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، عن ، عن ابن جريج مجاهد قال : قال إبراهيم حين سأل : " أي الفريقين أحق بالأمن " قال : هي حجة إبراهيم وقوله : " آتيناها إبراهيم على قومه " يقول : لقناها إبراهيم وبصرناه إياها وعرفناه " على قومه نرفع درجات من نشاء " .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة الحجاز والبصرة : " نرفع درجات من نشاء " بإضافة " الدرجات " إلى " من " بمعنى : نرفع الدرجات لمن نشاء .
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة نرفع درجات من نشاء بتنوين " الدرجات " بمعنى : نرفع من نشاء درجات .
و " الدرجات " جمع " درجة " وهي المرتبة . وأصل ذلك مراقي السلم ودرجه ، ثم تستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : هما قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القرأة ، متقارب معناهما . وذلك أن من رفعت درجته ، فقد رفع في الدرج ومن رفع في الدرج ، فقد رفعت درجته . فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب الصواب في ذلك . [ ص: 506 ]
فمعنى الكلام إذا : " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " فرفعنا بها درجته عليهم ، وشرفناه بها عليهم في الدنيا والآخرة . فأما في الدنيا ، فآتيناه فيها أجره وأما في الآخرة ، فهو من الصالحين " نرفع درجات من نشاء " أي بما فعل من ذلك وغيره .
وأما قوله : " إن ربك حكيم عليم " فإنه يعني : إن ربك ، يا محمد ، " حكيم " في سياسته خلقه ، وتلقينه أنبياءه الحجج على أممهم المكذبة لهم ، الجاحدة توحيد ربهم ، وفي غير ذلك من تدبيره " عليم " بما يئول إليه أمر رسله والمرسل إليهم ، من ثبات الأمم على تكذيبهم إياهم ، وهلاكهم على ذلك ، أو إنابتهم وتوبتهم منه بتوحيد الله - تعالى ذكره - وتصديق رسله ، والرجوع إلى طاعته .
يقول - تعالى ذكره - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : فأتس ، يا محمد ، في نفسك وقومك المكذبيك ، والمشركين ، بأبيك خليلي إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ، واصبر على ما ينوبك منهم صبره ، فإني بالذي يئول إليه أمرك وأمرهم عالم ، وبالتدبير فيك وفيهم حكيم .