[ ص: 126 ] القول في تأويل قوله ( وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ( 133 ) )
قال أبو جعفر : يقول جل ثناؤه : " وربك " ، يا محمد ، الذي أمر عباده بما أمرهم به ، ونهاهم عما نهاهم عنه ، وأثابهم على الطاعة ، وعاقبهم على المعصية " الغني " ، عن عباده الذين أمرهم بما أمر ، ونهاهم عما نهى ، وعن أعمالهم وعبادتهم إياه ، وهم المحتاجون إليه ؛ لأنه بيده حياتهم ومماتهم ، وأرزاقهم وأقواتهم ، ونفعهم وضرهم . يقول عز ذكره : فلم أخلقهم ، يا محمد ، ولم آمرهم بما أمرتهم به ، وأنههم عما نهيتهم عنه ، لحاجة لي إليهم ، ولا إلى أعمالهم ، ولكن لأتفضل عليهم برحمتي ، وأثيبهم على إحسانهم إن أحسنوا ، فإني ذو الرأفة والرحمة .
وأما قوله : ( إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، فإنه يقول : إن يشأ ربك ، يا محمد ، الذي خلق خلقه لغير حاجة منه إليهم وإلى طاعتهم إياه ( يذهبكم ) ، يقول : يهلك خلقه هؤلاء الذين خلقهم من ولد آدم ( ويستخلف من بعدكم ما يشاء ) ، يقول : ويأت بخلق غيركم وأمم سواكم ، يخلفونكم في الأرض " من بعدكم " ، يعني : من بعد فنائكم وهلاككم ( كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين ) ، كما أحدثكم وابتدعكم من بعد خلق آخرين كانوا قبلكم . [ ص: 127 ]
ومعنى " من " في هذا الموضع التعقيب ، كما يقال في الكلام : " أعطيتك من دينارك ثوبا " ، بمعنى : مكان الدينار ثوبا ، لا أن الثوب من الدينار بعض ، كذلك الذين خوطبوا بقوله : ( كما أنشأكم ) ، لم يرد بإخبارهم هذا الخبر أنهم أنشئوا من أصلاب قوم آخرين ، ولكن معنى ذلك ما ذكرنا من أنهم أنشئوا مكان خلق خلف قوم آخرين قد هلكوا قبلهم .
و " الذرية " " الفعلية " ، من قول القائل : " ذرأ الله الخلق " ، بمعنى خلقهم ، " فهو يذرؤهم " ، ثم ترك الهمزة فقيل : " ذرا الله " ، ثم أخرج " الفعلية " بغير همز ، على مثال " العبية " .
وقد روي عن بعض المتقدمين أنه كان يقرأ : " من ذريئة قوم آخرين " على مثال " فعيلة " .
وعن آخر أنه كان يقرأ : " ومن ذرية " ، على مثال " علية " .
قال أبو جعفر : والقراءة التي عليها القرأة في الأمصار : ( ذرية ) ، بضم الذال ، وتشديد الياء ، على مثال " عبية " . [ ص: 128 ]
وقد بينا اشتقاق ذلك فيما مضى قبل ، بما أغنى عن إعادته ههنا .
وأصل " الإنشاء " ، الإحداث . يقال : " قد أنشأ فلان يحدث القوم " ، بمعنى ابتدأ وأخذ فيه .