قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : والبلد الطيبة تربته ، العذبة مشاربه ، يخرج نباته إذا أنزل الله الغيث وأرسل عليه الحياة ، بإذنه ، طيبا ثمره في حينه ووقته . والذي خبث فردءت تربته ، وملحت مشاربه ، لا يخرج نباته إلا نكدا
يقول : إلا عسرا في شدة ، كما قال الشاعر :
لا تنجز الوعد ، إن وعدت ، وإن أعطيت أعطيت تافها نكدا
يعني ب " التافه " ، القليل ، وب " النكد " العسر . يقال منه : " نكد ينكد نكدا ، ونكدا فهو نكد ونكد " ، والنكد ، المصدر . ومن أمثالهم : " نكدا وجحدا " ، " ونكدا وجحدا " . و " الجحد " ، الشدة والضيق . ويقال : " إذا شفه وسئل : قد نكدوه ينكدونه نكدا " ، كما قال الشاعر :
وأعط ما أعطيته طيبا لا خير في المنكود والناكد
واختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأه بعض أهل المدينة : ( إلا نكدا ) ، بفتح الكاف . [ ص: 496 ]
وقرأه بعض الكوفيين بسكون الكاف : ( نكدا ) .
وخالفهما بعد سائر القرأة في الأمصار ، فقرءوه : ( إلا نكدا ) ، بكسر الكاف .
كأن من قرأه : " نكدا " بنصب الكاف أراد المصدر .
وكأن من قرأه بسكون الكاف أراد كسرها ، فسكنها على لغة من قال : " هذه فخذ وكبد " ، وكان الذي يجب عليه إذا أراد ذلك أن يكسر " النون " من " نكد " حتى يكون قد أصاب القياس .
قال أبو جعفر : والصواب من القراءة في ذلك عندنا ، قراءة من قرأه : ( نكدا ) ، بفتح " النون " وكسر " الكاف " ، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه .
وقوله : " كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون " ، يقول : كذلك : نبين آية بعد آية ، وندلي بحجة بعد حجة ، ونضرب مثلا بعد مثل ، لقوم يشكرون الله على إنعامه عليهم بالهداية ، وتبصيره إياهم سبيل أهل الضلالة ، باتباعهم ما أمرهم باتباعه ، وتجنبهم ما أمرهم بتجنبه من سبل الضلالة . وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالبلد الطيب الذي يخرج نباته بإذن ربه ، مثل للمؤمن والذي خبث فلا يخرج نباته إلا نكدا ، مثل للكافر .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
14786 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : [ ص: 497 ] " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " ، فهذا مثل ضربه الله للمؤمن . يقول : هو طيب ، وعمله طيب ، كما البلد الطيب ثمره طيب . ثم ضرب مثل الكافر كالبلدة السبخة المالحة التي يخرج منها النز فالكافر هو الخبيث ، وعمله خبيث .
14787 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : " والبلد الطيب " ، و " الذي خبث " قال : كل ذلك من الأرض السباخ وغيرها ، مثل آدم وذريته ، فيهم طيب وخبيث .
14788 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه .
14789 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " ، قال : هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن .
14790 - حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثني أحمد يعني ابن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن : " السدي والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث " ، هي السبخة لا يخرج نباتها إلا نكدا و " النكد " ، الشيء القليل الذي لا ينفع . فكذلك القلوب لما نزل القرآن ، فالقلب المؤمن لما دخله القرآن آمن به وثبت الإيمان فيه ، والقلب الكافر لما دخله القرآن لم يتعلق منه بشيء ينفعه ، ولم يثبت فيه من الإيمان شيء إلا ما لا ينفع ، كما لم يخرج هذا البلد إلا ما لا ينفع من النبات . [ ص: 498 ]
14791 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو سعد ، عن مجاهد : " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا " ، قال : الطيب ينفعه المطر فينبت ، " والذي خبث " السباخ ، لا ينفعه المطر ، لا يخرج نباته إلا نكدا . قال : هذا مثل ضربه الله لآدم وذريته كلهم ، إنما خلقوا من نفس واحدة ، فمنهم من آمن بالله وكتابه ، فطاب . ومنهم من كفر بالله وكتابه ، فخبث .