قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وقالت جماعة رجال من قوم فرعون لفرعون أتدع موسى وقومه من بني إسرائيل " ليفسدوا في الأرض " ، يقول : كي يفسدوا خدمك وعبيدك عليك في أرضك من مصر ( ويذرك وآلهتك ) ، [ ص: 37 ] يقول : "ويذرك" ، ويدع خدمتك موسى وعبادتك وعبادة آلهتك .
وفي قوله : ( ويذرك وآلهتك ) ، وجهان من التأويل .
أحدهما : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ، وقد تركك وترك عبادتك وعبادة آلهتك . وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه من التأويل ، كان النصب في قوله : ( ويذرك ) ، على الصرف ، لا على العطف به على قوله : "ليفسدوا" .
والثاني : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ، وليذرك وآلهتك كالتوبيخ منهم لفرعون على ترك موسى ليفعل هذين الفعلين . وإذا وجه الكلام إلى هذا الوجه ، كان نصب : ( ويذرك ) على العطف على ( ليفسدوا ) . قال أبو جعفر : والوجه الأول أولى الوجهين بالصواب ، وهو أن يكون نصب ( ويذرك ) على الصرف ، لأن التأويل من أهل التأويل به جاء .
وبعد ، فإن في قراءة أبي بن كعب الذي : -
14961 - حدثنا أحمد بن يوسف قال ، حدثنا القاسم قال ، حدثنا حجاج عن هارون قال ، في حرف أبي بن كعب : ( وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك ) .
دلالة واضحة على أن نصب ذلك على الصرف .
وقد روي عن أنه كان يقرأ ذلك : "ويذرك وآلهتك" ، عطفا بقوله : ( ويذرك ) على قوله : ( الحسن البصري أتذر موسى ) . [ ص: 38 ] كأنه وجه تأويله إلى : أتذر موسى وقومه ، ويذرك وآلهتك ، ليفسدوا في الأرض . وقد تحتمل قراءة الحسن هذه أن يكون معناها : أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ، وهو يذرك وآلهتك؟ فيكون "يذرك" مرفوعا بابتداء الكلام والسلامة من الحوادث .
وأما قوله : ( وآلهتك ) ، فإن قرأة الأمصار على فتح "الألف" منها ومدها ، بمعنى : وقد ترك موسى عبادتك وعبادة آلهتك التي تعبدها .
وقد ذكر عن ابن عباس أنه قال : كان له بقرة يعبدها .
وقد روي عن ابن عباس ومجاهد أنهما كانا يقرآنها : ( ويذرك وإلاهتك ) بكسر الألف بمعنى : ويذرك وعبودتك .
قال أبو جعفر : والقراءة التي لا نرى القراءة بغيرها ، هي القراءة التي عليها قرأة الأمصار ، لإجماع الحجة من القرأة عليها .
ذكر من قال : كان فرعون يعبد آلهة على قراءة من قرأ : ( ويذرك وآلهتك ) .
14962 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو قال ، حدثنا أسباط ، عن : ( السدي ويذرك وآلهتك ) ، وآلهته فيما زعم ابن عباس ، كانت البقر ، [ ص: 39 ] كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج لهم عجلا وبقرة .
14963 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن عمرو ، عن الحسن قال : كان لفرعون جمانة معلقة في نحره ، يعبدها ويسجد لها .
14964 - حدثنا قال ، حدثنا محمد بن بشار عبد الرحمن بن مهدي قال ، حدثنا أبان بن خالد قال ، سمعت الحسن يقول : بلغني أن فرعون كان يعبد إلها في السر ، وقرأ : "ويذرك وآلهتك " .
14965 - حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن أبي بكر ، عن الحسن قال : كان لفرعون إله يعبده في السر .
ذكر من قال : معنى ذلك : ويذرك وعبادتك ، على قراءة من قرأ : ( وإلاهتك ) .
14966 - حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا ابن عيينة ، عن ، عن عمرو بن دينار محمد بن عمرو بن الحسن ، عن ابن عباس : ( ويذرك وإلاهتك ) قال : إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد .
14967 - . . قال : حدثنا أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن ، عن عمرو بن دينار ابن عباس أنه قرأ ، ( ويذرك وإلاهتك ) قال : وعبادتك ، ويقول : إنه كان يعبد ولا يعبد .
14968 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني [ ص: 40 ] معاوية ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : ( ويذرك وإلاهتك ) ، قال : يترك عبادتك .
14969 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل عن ، عن عمرو بن دينار ابن عباس أنه كان يقرأ : ( وإلاهتك ) ، يقول : وعبادتك .
14970 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( ويذرك وإلاهتك ) ، قال : عبادتك .
14971 - حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال ، حدثنا سفيان ، عن ، عن عمرو بن دينار محمد بن عمرو بن حسين ، عن ابن عباس : أنه كان يقرأ : ( ويذرك وإلاهتك ) ، وقال : إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد .
وقد زعم بعضهم : أن من قرأ : "وإلاهتك" ، إنما يقصد إلى نحو معنى قراءة من قرأ : ( وآلهتك ) ، غير أنه أنث وهو يريد إلها واحدا ، كأنه يريد : ويذرك وإلاهك ثم أنث "الإله" فقال : "وإلاهتك" .
وذكر بعض البصريين أن أعرابيا سئل عن "الإلاهة" فقال : "هي علمة" يريد علما ، فأنث "العلم" ، فكأنه شيء نصب للعبادة يعبد . وقد قالت بنت عتيبة بن الحارث اليربوعي : تروحنا من اللعباء قصرا وأعجلنا الإلاهة أن تئوبا [ ص: 41 ]
يعني ب"الإلاهة" ، في هذا الموضع ، الشمس . وكأن هذا المتأول هذا التأويل ، وجه "الإلاهة" ، إذا أدخلت فيها هاء التأنيث ، وهو يريد واحد "الآلهة" ، إلى نحو إدخالهم "الهاء" في "ولدتي" و"كوكبتي" و"ماءتي" ، وهو "أهلة ذاك" ، وكما قال الراجز :
يا مضر الحمراء أنت أسرتي
وأنت ملجاتي وأنت ظهرتي
وقد بين ابن عباس ومجاهد ما أرادا من المعنى في قراءتهما ذلك على ما قرأا ، فلا وجه لقول هذا القائل ما قال ، مع بيانهما عن أنفسهما ما ذهبا إليه من معنى ذلك .
وقوله : ( قال سنقتل أبناءهم ) ، يقول : قال فرعون : سنقتل أبناءهم الذكور من أولاد بني إسرائيل ( ونستحيي نساءهم ) ، يقول : ونستبقي إناثهم ( ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون ) ، [ ص: 42 ] يقول : وإنا عالون عليهم بالقهر ، يعني بقهر الملك والسلطان .
وقد بينا أن كل شيء عال بقهر وغلبة على شيء ، فإن العرب تقول : هو فوقه .