قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : واذكر ، يا محمد ، إذ اقتلعنا الجبل فرفعناه فوق بني إسرائيل ، كأنه ظلة غمام من الظلال وقلنا لهم : " خذوا ما آتيناكم بقوة " ، من فرائضنا ، وألزمناكم من أحكام كتابنا ، فاقبلوه ، اعملوا باجتهاد منكم في أدائه ، من غير تقصير ولا توان " واذكروا ما فيه " ، يقول ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذنا عليكم بالعمل بما فيه " لعلكم تتقون " ، يقول : كي تتقوا ربكم ، فتخافوا عقابه بترككم العمل به إذا ذكرتم ما أخذ عليكم فيه من المواثيق .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
15331 - حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " ، فقال لهم موسى : خذوا ما آتيناكم بقوة " ، يقول : من العمل بالكتاب ، وإلا خر عليكم [ ص: 218 ] الجبل فأهلككم! فقالوا : بل نأخذ ما آتانا الله بقوة! ثم نكثوا بعد ذلك .
15332 - حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية ، عن علي عن ابن عباس قوله : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة " ، فهو قوله : ( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ) ، [ سورة النساء : 154 ] ، فقال : " خذوا ما آتيناكم بقوة " ، وإلا أرسلته عليكم .
15333 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا ، عن خالد بن عبد الله داود ، عن عامر ، عن ابن عباس قال : إني لأعلم خلق الله لأي شيء سجدت اليهود على حرف وجوههم : لما رفع الجبل فوقهم سجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم . قال : فكانت سجدة رضيها الله ، فاتخذوها سنة .
15334 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن المثنى عبد الأعلى قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن ابن عباس ، مثله .
15335 - حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة وظنوا أنه واقع بهم خذوا ما آتيناكم بقوة " ، أي : بجد " واذكروا ما فيه لعلكم تتقون " ، جبل نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رءوسهم ، فقال : لتأخذن أمري ، أو لأرمينكم به!
15336 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال قال ابن جريج ، مجاهد : " وإذ نتقنا الجبل " ، قال : كما تنتق الزبدة [ ص: 219 ] قال : كانوا أبوا التوراة أن يقبلوها أو يؤمنوا بها " ابن جريج خذوا ما آتيناكم بقوة " ، قال : يقول : لتؤمنن بالتوراة ولتقبلنها ، أو ليقعن عليكم .
15337 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله قال : هذا كتاب الله ، أتقبلونه بما فيه ، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم ، وما أمركم وما نهاكم! قالوا : انشر علينا ما فيها ، فإن كانت فرائضها يسيرة وحدودها خفيفة ، قبلناها! قال : اقبلوها بما فيها! قالوا : لا حتى نعلم ما فيها ، كيف حدودها وفرائضها! فراجعوا موسى مرارا ، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء ، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي؟ "لإن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل" . قال : فحدثني قال : لما نظروا إلى الجبل خر كل رجل ساجدا على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل ، فرقا من أن يسقط عليه ، فلذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة . قال الحسن البصري ، أبو بكر : فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده ، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز ، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ، ونفض لها رأسه .
قال أبو جعفر : واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى قوله : "نتقنا" .
فقال بعض البصريين معنى "نتقنا" ، رفعنا ، واستشهد بقول العجاج :
ينتق أقتاد الشليل نتقا
[ ص: 220 ]وقال : يعني بقوله : "ينتق" ، يرفعها عن ظهره ، وبقول الآخر :
ونتقوا أحلامنا الأثاقلا
وقد حكي عن قائل هذه المقالة قول آخر : وهو أن أصل "النتق" و"النتوق" ، كل شيء قلعته من موضعه فرميت به ، يقال منه : "نتقت نتقا" . قال : ولهذا قيل للمرأة الكثيرة [ الولد ] : "ناتق" ، لأنها ترمي بأولادها رميا ، واستشهد ببيت النابغة :
لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم دحقت عليك بناتق مذكار
وقال آخر : معناه في هذا الموضع : رفعناه . وقال : قالوا : "نتقني السير" : حركني . وقال : قالوا : "ما نتق برجله لا يركض" ، و"النتق" : نتق الدابة صاحبها حين تعدو به وتتعبه حتى يربو ، فذلك "النتق" و"النتوق" ، و"نتقتني الدابة" ، و"نتقت المرأة تنتق نتوقا" : كثر ولدها .
وقال بعض الكوفيين : " نتقنا الجبل " ، علقنا الجبل فوقهم فرفعناه ، ننتقه نتقا ، و"امرأة منتاق" ، كثيرة الولد : قال : وسمعت "أخذ الجراب ، فنتق ما فيه" ، إذا نثر ما فيه . [ ص: 222 ]