[ ص: 350 ] [ ص: 351 ] [ ص: 352 ] [ ص: 353 ] بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ( 1 ) قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( 2 ) كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ( 3 ) )
يقول جل ثناؤه : ( سبح لله ما في السماوات ) السبع ( وما في الأرض ) من الخلق ، مذعنين له بالألوهية والربوبية ( وهو العزيز ) في نقمته ممن عصاه منهم ، فكفر به ، وخالف أمره ( الحكيم ) في تدبيره إياهم .
وقوله : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) يقول تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا - صدقوا - الله ورسوله ، لم تقولون القول الذي لا تصدقونه بالعمل ، فأعمالكم مخالفة أقوالكم ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) يقول : عظم مقتا عند ربكم قولكم ما لا تفعلون .
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية ، فقال بعضهم : أنزلت توبيخا من الله لقوم من المؤمنين تمنوا معرفة أفضل الأعمال ، فعرفهم الله إياه ، فلما عرفوا قصروا ، فعوتبوا بهذه الآية .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) قال : كان [ ص: 354 ] ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه ، فنعمل به ، فأخبر الله نبيه أن أحب الأعمال إليه إيمان بالله لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به; فلما نزل الجهاد ، كره ذلك أناس من المؤمنين ، وشق عليهم أمره ، فقال الله : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون )
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) قال : كان قوم يقولون : والله لو أنا نعلم ما أحب الأعمال إلى الله لعملناه ، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا ) . . . إلى قوله : ( بنيان مرصوص ) فدلهم على أحب الأعمال إليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن عن محمد بن جحادة ، أبي صالح ، قال : قالوا : لو كنا نعلم أي الأعمال أحب إلى الله وأفضل ، فنزلت : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) فكرهوا ، فنزلت ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ( لم تقولون ما لا تفعلون ) . . . إلى قوله : ( مرصوص ) فيما بين ذلك في نفر من الأنصار فيهم عبد الله بن رواحة ، قالوا في مجلس : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت ، فأنزل الله هذا فيهم ، فقال عبد الله بن رواحة : لا أزال حبيسا في سبيل الله حتى أموت ، فقتل شهيدا .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية في توبيخ قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان أحدهم يفتخر بالفعل من أفعال الخير التي لم يفعلها ، [ ص: 355 ] فيقول : فعلت كذا وكذا ، فعذلهم الله على افتخارهم بما لم يفعلوا كذبا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( لم تقولون ما لا تفعلون ) قال : بلغني أنها كانت في الجهاد ، كان الرجل يقول : قاتلت وفعلت ، ولم يكن فعل ، فوعظهم الله في ذلك أشد الموعظة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) يؤذنهم ويعلمهم كما تسمعون ( كبر مقتا عند الله ) وكانت رجال تخبر في القتال بشيء لم يفعلوه ولم يبلغوه ، فوعظهم الله في ذلك موعظة بليغة ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) . . إلى قوله : ( كأنهم بنيان مرصوص ) .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( لم تقولون ما لا تفعلون ) أنزل الله هذا في الرجل يقول في القتال ما لم يفعله من الضرب والطعن والقتل ، قال الله ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) .
وقال آخرون : بل هذا توبيخ من الله لقوم من المنافقين ، كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : لو خرجتم خرجنا معكم ، وكنا في نصركم ، وفي ، وفي; فأخبرهم أنه ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : عنى بها الذين قالوا : لو [ ص: 356 ] عرفنا أحب الأعمال إلى الله لعملنا به ، ثم قصروا في العمل بعد ما عرفوا .
وإنما قلنا : هذا القول أولى بها ، لأن الله جل ثناؤه خاطب بها المؤمنين ، فقال : ( ياأيها الذين آمنوا ) ولو كانت نزلت في المنافقين لم يسموا ولم يوصفوا بالإيمان ، ولو كانوا وصفوا أنفسهم بفعل ما لم يكونوا فعلوه ، كانوا قد تعمدوا قيل الكذب ، ولم يكن ذلك صفة القوم ، ولكنهم عندي أملوا بقولهم : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله عملناه أنهم لو علموا بذلك عملوه; فلما علموا ضعفت قوى قوم منهم ، عن القيام بما أملوا القيام به قبل العلم ، وقوي آخرون فقاموا به ، وكان لهم الفضل والشرف .
واختلفت أهل العربية في معنى ذلك ، وفي وجه نصب قوله : ( كبر مقتا ) فقال بعض نحويي البصرة : قال : ( كبر مقتا عند الله ) : أي كبر مقتكم مقتا ، ثم قال : ( أن تقولوا ما لا تفعلون ) أذى قولكم . وقال بعض نحويي الكوفة : قوله : ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) . كان المسلمون يقولون : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لأتيناه ، ولو ذهبت فيه أنفسنا وأموالنا; فلما كان يوم أحد ، نزلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى شج ، وكسرت رباعيته ، فقال ( لم تقولون ما لا تفعلون ) ، ثم قال : ( كبر مقتا عند الله ) كبر ذلك مقتا ، أي ف "أن" في موضع رفع ، لأن "كبر" كقوله : بئس رجلا أخوك .
وقوله : ( كبر مقتا عند الله ) وعند الذين آمنوا ، أضمر في "كبر" اسم ، يكون مرفوعا .
والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله : ( مقتا ) منصوب على التفسير ، كقول القائل : كبر قولا هذا القول .