يقول تعالى ذكره : وإذا السماء نزعت وجذبت ثم طويت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( كشطت ) قال : جذبت . وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله ( قشطت ) بالقاف ، والقشط والكشط بمعنى واحد وذلك تحويل من العرب الكاف قافا لتقارب مخرجيهما ، كما قيل للكافور قافور ، ولقسط كسط ، وذلك كثير في كلامهم إذا [ ص: 250 ] تقارب مخرج الحرفين أبدلوا من كل واحد منهما صاحبه ، كقولهم للأثافي : أثاثي ، وثوب فرقبي وثرقبي .
وقوله : ( وإذا الجحيم سعرت ) يقول تعالى ذكره : وإذا الجحيم أوقد عليها فأحميت .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وإذا الجحيم سعرت ) سعرها غضب الله ، وخطايا بني آدم .
واختلفت القراء في قراءة ذلك فقرأته عامة قراء المدينة ( سعرت ) بتشديد عينها بمعنى أوقد عليها مرة بعد مرة ، وقرأته عامة قراء الكوفة بالتخفيف . والقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وقوله : ( وإذا الجنة أزلفت ) يقول تعالى ذكره : وإذا الجنة قربت وأدنيت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، سفيان ، عن أبيه ، عن أبي يعلى ، عن الربيع بن خثيم : ( وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت ) قال : إلى هذين ما جرى الحديث : فريق في الجنة ، وفريق في السعير .
حدثني ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان عن أبيه ، عن أبي يعلى ، عن الربيع ( وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت ) قال : إلى هذين ما جرى الحديث : فريق إلى الجنة ، وفريق إلى النار . يعني الربيع بقوله : إلى هذين ما جرى الحديث أن ابتداء الخبر ( إذا الشمس كورت ) إلى قوله : ( وإذا الجحيم سعرت ) إنما عددت الأمور الكائنة التي نهايتها أحد هذين الأمرين ، وذلك المصير إما إلى الجنة ، وإما إلى النار .
وقوله : ( علمت نفس ما أحضرت ) يقول تعالى ذكره : علمت نفس عند ذلك ما أحضرت من خير ، فتصير به إلى الجنة ، أو شر فتصير به إلى النار ، يقول : يتبين له عند ذاك ما كان جاهلا به ، وما الذي كان فيه صلاحه من غيره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( علمت نفس ما أحضرت ) [ ص: 251 ] من عمل قال : قال رضي الله عنه : وإلى هذا جرى الحديث . عمر بن الخطاب
وقوله : ( علمت نفس ما أحضرت ) جواب لقوله : ( إذا الشمس كورت ) وما بعدها ، كما يقال : إذا قام عبد الله قعد عمرو .
وقوله : ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) اختلف أهل التأويل في الخنس الجوار الكنس فقال بعضهم : هي النجوم الدراري الخمسة تخنس في مجراها فترجع وتكنس ، فتستتر في بيوتها كما تكنس الظباء في المغار ، والنجوم الخمسة : بهرام وزحل ، وعطارد ، والزهرة ، والمشتري .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا هناد ، قال : ثنا أبو الأحوص ، عن سماك ، عن خالد بن عرعرة ، أن رجلا قام إلى علي رضي الله عنه ، فقال : ما ( الجوار الكنس ) ؟ قال : هي الكواكب .
حدثنا قال : ثنا ابن المثنى ، محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قال : سمعت سماك بن حرب ، خالد بن عرعرة ، قال : سمعت عليا عليه السلام ، وسئل عن ( لا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، وتكنس بالليل .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، سماك ، عن خالد بن عرعرة ، عن علي رضي الله عنه ، قال : النجوم .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل من مراد ، عن علي أنه قال : هل تدرون ما الخنس ؟ هي النجوم تجري بالليل ، وتخنس بالنهار .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني جرير بن حازم ، أنه سمع الحسن يسئل ، فقيل : يا أبا سعيد ما الجواري الكنس ؟ قال : النجوم .
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار ، هوذة بن خليفة ، قال : ثنا عوف ، عن بكر بن عبد الله ، في قوله : ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : هي النجوم الدراري ، التي تجري تستقبل المشرق .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : هي النجوم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن رجل [ ص: 252 ] من مراد ، عن رضي الله عنه ( علي بن أبي طالب فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : يعني النجوم تكنس بالنهار ، وتبدو بالليل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة : قوله : ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن في قوله : ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : هي النجوم تخنس بالنهار ، والجوار الكنس : سيرهن إذا غبن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : الخنس والجواري الكنس : النجوم الخنس ، إنها تخنس تتأخر عن مطلعها ، هي تتأخر كل عام لها في كل عام تأخر عن تعجيل ذلك الطلوع تخنس عنه . والكنس : تكنس بالنهار فلا ترى . قال : والجواري تجري بعد ، فهذا الخنس الجواري الكنس .
وقال آخرون : هي بقر الوحش التي تكنس في كناسها .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عرفة قال : ثنا هشيم بن بشير ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن عن أبي إسحاق السبيعي ، أبي ميسرة ، عن أنه قال عبد الله بن مسعود لأبي ميسرة : ما الجواري الكنس ؟ قال : فقال بقر الوحش قال : فقال : وأنا أرى ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا يحيى ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، عن عبد الله ، في قوله : ( الجوار الكنس ) : قال : بقر الوحش .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قال : قال عمرو بن شرحبيل ، ابن مسعود : يا عمرو ما الجواري الكنس ، أو ما تراها ؟ قال عمرو : أراها البقر ، قال عبد الله : وأنا أراها البقر .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة قال : سألت عنها عبد الله ، فذكر نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني جرير بن حازم ، قال : ثني الحجاج بن المنذر ، قال : سألت أبا الشعثاء جابر بن زيد عن الجواري الكنس ، [ ص: 253 ] قال : هي البقر إذا كنست كوانسها .
قال يونس : قال لي : هي البقر إذا فرت من الذئاب ، فذلك الذي أراد بقوله : كنست كوانسها . عبد الله بن وهب
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال جرير ، وحدثني الصلت بن راشد ، عن مجاهد مثل ذلك .
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، في قوله : ( الجوار الكنس ) قال : هي بقر الوحش .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، قال : سئل مجاهد ونحن عند إبراهيم ، عن قوله : ( الجوار الكنس ) قال : لا أدري ، فانتهره إبراهيم وقال : لم لا تدري ؟ فقال : إنهم يروون عن علي رضي الله عنه : وكنا نسمع أنها البقر ، فقال إبراهيم : هي البقر ، الجواري الكنس : حجرة بقر الوحش التي تأوي إليها ، والخنس الجواري : البقر .
حدثنا يعقوب ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ومجاهد أنهما تذاكرا هذه الآية ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) فقال إبراهيم لمجاهد : قل فيها ما سمعت ، قال : فقال مجاهد : كنا نسمع فيها شيئا ، وناس يقولون : إنها النجوم ، قال : فقال إبراهيم : إنهم يكذبون على علي رضي الله عنه ، هذا كما رووا عن علي رضي الله عنه ، أنه ضمن الأسفل الأعلى ، والأعلى الأسفل .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن المغيرة ، قال : سئل مجاهد عن الجواري الكنس قال : لا أدري يزعمون أنها البقر; قال : فقال إبراهيم : ما لا تدري هي البقر ، قال : يذكرون عن علي رضي الله عنه أنها النجوم ، قال : يكذبون على علي عليه السلام .
وقال آخرون : هي الظباء .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) يعني : الظباء .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا ابن يمان ، عن أشعث بن إسحاق ، عن جعفر ، [ ص: 254 ] عن سعيد بن جبير ( فلا أقسم بالخنس ) قال : الظباء .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا قال : ثنا ابن علية ، ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس ) قال : كنا نقول : " أظنه قال " : الظباء ، حتى زعم سعيد بن جبير أنه سأل ابن عباس عنها ، فأعاد عليه قراءتها .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( الخنس الجوار الكنس ) يعني الظباء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب : أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بأشياء تخنس أحيانا : أي تغيب ، وتجري أحيانا وتكنس أخرى ، وكنوسها : أن تأوي في مكانسها ، والمكانس عند العرب : هي المواضع التي تأوي إليها بقر الوحش والظباء ، واحدها : مكنس وكناس ، كما قال الأعشى :
فلما لحقنا الحي أتلع أنس كما أتلعت تحت المكانس ربرب
فهذه جمع مكنس ، وكما قال في الكناس طرفة بن العبد :
كأن كناسي ضالة يكنفانها وأطر قسي تحت صلب مؤيد
وأما الدلالة على أن الكناس قد يكون للظباء ، فقول أوس بن حجر :
[ ص: 255 ]
ألم تر أن الله أنزل مزنة وعفر الظباء في الكناس تقمع
فالكناس في كلام العرب ما وصفت ، وغير منكر أن يستعار ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء ، فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أن المراد بذلك النجوم دون البقر ، ولا البقر دون الظباء ، فالصواب أن يعم بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحيانا والجري أخرى ، والكنوس بآنات على ما وصف جل ثناؤه من صفتها .