الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        4103 حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان قال الذي حفظناه من عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله يقول بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مائة راكب أميرنا أبو عبيدة بن الجراح نرصد عير قريش فأقمنا بالساحل نصف شهر فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمي ذلك الجيش جيش الخبط فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر فأكلنا منه نصف شهر وادهنا من ودكه حتى ثابت إلينا أجسامنا فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه فنصبه فعمد إلى أطول رجل معه قال سفيان مرة ضلعا من أضلاعه فنصبه وأخذ رجلا وبعيرا فمر تحته قال جابر وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم إن أبا عبيدة نهاه وكان عمرو يقول أخبرنا أبو صالح أن قيس بن سعد قال لأبيه كنت في الجيش فجاعوا قال انحر قال نحرت قال ثم جاعوا قال انحر قال نحرت قال ثم جاعوا قال انحر قال نحرت ثم جاعوا قال انحر قال نهيت

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله في الرواية الثانية : ( فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط ) بفتح المعجمة والموحدة بعدها مهملة هو ورق السلم ، في رواية أبي الزبير " وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله " وهذا يدل على أنه كان يابسا ، بخلاف ما جزم به الداودي أنه كان أخضر رطبا . ووقع في رواية الخولاني " وأصابتنا مخمصة " . قوله : ( ثم انتهينا إلى البحر ) أي إلى ساحل البحر ، وهو صريح الرواية الثانية ، وفي رواية أبي الزبير " فانطلقنا على ساحل البحر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فإذا حوت مثل الظرب ) أما الحوت فهو اسم جنس لجميع السمك ، وقيل : هو مخصوص بما عظم منها ، والظرب بفتح المعجمة المشالة ، ووقع في بعض النسخ بالمعجمة الساقطة حكاها ابن التين . والأول أصوب ، وبكسر الراء بعدها موحدة : الجبل الصغير . وقال القزاز : هو بسكون الراء إذا كان منبسطا ليس بالعالي . وفي رواية أبي الزبير " فوقع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم : فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر " وفي الرواية الثانية " فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر " وفي رواية الخولاني " فهبطنا بساحل البحر فإذا نحن بأعظم حوت " قال أهل اللغة : العنبر سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلدها الترسة ، ويقال : إن العنبر المشموم رجيع هذه الدابة . وقال ابن سيناء : بل المشموم يخرج من البحر ، وإنما يؤخذ من أجواف السمك الذي يبتلعه . ونقل الماوردي عن الشافعي قال : سمعت من يقول رأيت العنبر نابتا في البحر ملتويا مثل عنق الشاة ، وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها فيقتلها فيقذفها ، فيخرج العنبر من بطنها . وقال الأزهري : العنبر سمكة تكون بالبحر الأعظم يبلغ طولها خمسين ذراعا يقال لها بالة وليست بعربية : قال الفرزدق :


                                                                                                                                                                                                        فبتنا كأن العنبر الورد بيننا وبالة بحر فاؤها قد تخرما



                                                                                                                                                                                                        أي قد تشقق . ووقع في رواية ابن جريج عن عمرو بن دينار في أواخر الباب " فألقى لنا البحر حوتا ميتا " واستدل به على جواز أكل ميتة السمك ، وسيأتي البحث فيه في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( فأكل منه القوم ثمان عشرة ليلة ) في رواية عمرو بن دينار ( فأكلنا منه نصف شهر ) وفي رواية أبي [ ص: 681 ] الزبير " فأقمنا عليها شهرا " ويجمع بين هذا الاختلاف بأن الذي قال : ثمان عشرة ضبط ما لم يضبطه غيره ، وأن من قال : نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام ، ومن قال شهرا جبر الكسر أو ضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها ، ورجح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة ، وقال ابن التين : إحدى الروايتين وهم . انتهى . ووقع في رواية الحاكم " اثني عشر يوما " وهي شاذة ، وأشد منها شذوذا رواية الخولاني " فأقمنا قبلها ثلاثا " ولعل الجمع الذي ذكرته أولى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                        قوله في الرواية الثانية : ( حتى ثابت ) بمثلثة أي رجعت ، وفيه إشارة إلى أنهم أصابهم هزال من الجوع السابق .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وادهنا من ودكه ) بفتح الواو والمهملة أي شحمه ، وفي رواية أبي الزبير " فلقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقطع منه الفدر كالثور " . والوقب بفتح الواو وسكون القاف بعدها موحدة هي النقرة التي تكون فيها الحدقة ، والفدر بكسر الفاء وفتح الدال جمع فدرة بفتح ثم سكون وهي القطعة من اللحم ومن غيره ، وفي رواية الخولاني " فحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ) كذا فيه ، واستشكل لأن الضلع مؤنثة ، ويجاب بأن تأنيثه غير حقيقي فيجوز فيه التذكير .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ثم أمر براحلة فرحلت ثم مرت تحتهما فلم تصبهما ) وفي الرواية الثانية " فعمد إلى أطول رجل معه فمر تحته " وفي حديث عبادة بن الصامت عند ابن إسحاق " ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا فخرج من تحتهما وما مست رأسه " وهذا الرجل لم أقف على اسمه ، وأظنه قيس بن سعد بن عبادة فإن له ذكرا في هذه الغزوة كما ستراه بعد ، وكان مشهورا بالطول ، وقصته في ذلك مع معاوية لما أرسل إليه ملك الروم بالسراويل معروفة ، فذكرها المعافي الحريري في الجليس وأبو الفرج الأصبهاني وغيرهما ، ومحصلها أن أطول رجل من الروم نزع له قيس بن سعد سراويله فكان طول قامة الرومي بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها بالأرض ، وعوتب قيس في نزع سراويله في المجلس فأنشد :


                                                                                                                                                                                                        أردت لكيما يعلم الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود


                                                                                                                                                                                                        وأن لا يقولوا غاب قيس وهذه سراويل عادي نمته ثمود



                                                                                                                                                                                                        وزاد مسلم في رواية أبي الزبير " فأخذ أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه " والوقب تقدم ضبطه وهو حفرة العين في عظم الوجه ، وأصله نقرة في الصخرة يجتمع فيها الماء والجمع وقاب بكسر أوله ، ووقع في آخر صحيح مسلم من طريق عبادة بن الوليد " أن عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم - فذكر حديثا طويلا وفي آخره - وشكا الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوع فقال : عسى الله أن يطعمكم . فأتينا سيف البحر فزخر البحر زخرة فألقى دابة فأورينا على شقها النار فاطبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا . قال جابر : فدخلت وفلان وفلان حتى عد خمسة في حجاج عينها وما يرانا أحد ، حتى خرجنا [ ص: 682 ] وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقوسناه ثم دعونا بأعظم رجل في الركب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطئ رأسه " . وظاهر سياقه أن ذلك وقع لهم في غزوة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لكن يمكن حمل قوله : فأتينا سيف البحر على أنه معطوف على شيء محذوف تقديره : فبعثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأتينا إلخ ، فيتحد مع القصة التي في حديث الباب .

                                                                                                                                                                                                        قوله في الرواية الثانية : ( فأخذ أبو عبيدة ضلعا من أضلاعه ) كذا للأكثر ، وللمستملي " من أعضائه " والأول أصوب لأن في السياق " قال سفيان مرة : ضلعا من أعضائه " فدل على أن الرواية الأولى " من أضلاعه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان رجل من القوم نحر ثلاث جزائر ) أي عندما جاعوا ، ووقع في رواية الخولاني " سبع جزائر " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وكان عمرو ) هو ابن دينار ، وأبو صالح هو ذكوان السمان .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( أن قيس بن سعد قال لأبيه : كنت في الجيش فجاعوا ، قال : انحر ) وهذا صورته مرسل ؛ لأن عمرو بن دينار لم يدرك زمان تحديث قيس لأبيه ، لكنه في مسند الحميدي موصول أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريقه ولفظه " عن أبي صالح عن قيس بن سعد بن عبادة قال : قلت لأبي وكنت في ذلك الجيش جيش الخبط فأصاب الناس جوع ، قال لي : انحر . قلت : نحرت " فذكره وفي آخره " قلت : نهيت " وذكر الواقدي بإسناد له أن قيس بن سعد لما رأى ما بالناس قال : من يشتري مني تمرا بالمدينة بجزور هنا ، فقال له رجل من جهينة : من أنت ؟ فانتسب له ، فقال : عرفت نسبك . فابتاع منه خمس جزائر بخمسة أوسق وأشهد له نفرا من الصحابة ، فامتنع عمر لكون قيس لا مال له ، فقال الأعرابي : ما كان سعد ليجني بابنه في أوسق تمر ، فبلغ ذلك سعدا فغضب ووهب لقيس أربع حوائط أقلها يجذ خمسين وسقا . وزاد ابن خزيمة من طريق عمرو بن الحارث عن عمرو بن دينار وقال في حديثه : لما قدموا ذكروا شأن قيس ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إن الجود من شيمة أهل ذلك البيت وفي حديث الواقدي أن أهل المدينة بلغهم الجهد الذي قد أصاب القوم ، فقال سعد بن عبادة : إن يك قيس كما أعرف فسينحر للقوم .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية