جملة معطوفة على جملة نساؤكم حرث لكم عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعا من [ ص: 376 ] قربان الأزواج في حالة الحيض ، وكون مضمون هذه الجملة للذين يؤلون من نسائهم ، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة نساؤكم حرث لكم وجملة للذين يؤلون من نسائهم ، وسلك فيه طريق العطف ؛ لأنه نهي عطف على نهي في قوله ولا تقربوهن حتى يطهرن وقال التفتازاني : الأظهر أنه معطوف على مقدر ; أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة اهـ . وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة ، وجوز التفتازاني : أن يكون معطوفا على الأوامر السابقة وهي وقدموا و واتقوا و واعلموا أنكم ملاقوه اهـ . أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئا من التقوى دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوى باحترام الاسم المعظم; فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه ، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمدا ، فجيء بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث ، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين ، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به ، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز ، وقال عبد الحكيم : معطوف على جملة قل بتقدير قل أي : وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله : وقدموا إن جعل قوله وقدموا من جملة مقول قل ، وذكر جمع من المفسرين عن ، إنها نزلت حين حلف ابن جريج ألا ينفق على قريبه أبو بكر الصديق لمشاركته الذين تكلموا بخبر الإفك عن مسطح بن أثاثة عائشة رضي الله عنها ، وقال الواحدي عن الكلبي : نزلت في : حلف ألا يكلم ختنه على أخته عبد الله بن رواحة بشير بن النعمان ولا يدخل بيته ولا يصلح بينه وبين امرأته ، وأيا ما كان فواو العطف لا بد أن تربط هذه الجملة بشيء من الكلام الذي قبلها .
وتعلق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم ، فالتقدير : ولا تجعلوا اسم الله ، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهب
أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف .[ ص: 377 ] والعرضة : اسم على وزن الفعلة وهو وزن دال على المفعول كالقبضة والمسكة والهزأة ، وهو مشتق من : عرضه إذا وضعه على العرض أي الجانب ، ومعنى العرض هنا جعل الشيء حاجزا من قولهم عرض العود على الإناء فنشأ عن ذلك إطلاق العرضة على الحاجز المتعرض ، وهو إطلاق شائع يساوي المعنى الحقيقي ، وأطلقت على ما يكثر جمع الناس حوله فكأنه يعترضهم عن الانصراف وأنشد في الكشاف :
ولا تجعلوني عرضة للوائم والآية تحتمل المعنيين .
واللام في قول لأيمانكم لام التعدية تتعلق بـ " عرضة " لما فيها من معنى الفعل : أي لا تجعلوا اسم الله معرضا لأيمانكم فتحلفوا به على الامتناع من البر والتقوى والإصلاح ، ثم تقولوا سبقت منا يمين ، ويجوز أن تكون اللام للتعليل : أي لا تجعلوا الله عرضة لأجل أيمانكم الصادرة على ألا تبروا . والأيمان : جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يمينا أخذا من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله ، وهي اشتقت من اليمن : وهو البركة ، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى ، وسمي الحلف يمينا لأن العرب كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر ، قال تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فكانوا يقولون : أعطى يمينه ، إذا أكد العهد . وشاع ذلك في كلامهم قال كعب بن زهير :
حتى وضعت يميني لا أنازعه
في كف ذي يسرات قيله القيل
ولما كان غالب أيمانهم في العهود والحلف ، وهو الذي يضع فيه المتعاهدون أيديهم [ ص: 378 ] بعضها في بعض ، شاع إطلاق اليمين على كل حلف ، جريا على غالب الأحوال; فأطلقت اليمين على قسم المرء في خاصة نفسه دون عهد ولا حلف .
والقصد من الحلف يرجع إلى قصد أن يشهد الإنسان الله تعالى على صدقه : في خبر أو وعد أو تعليق . ولذلك يقول : ( بالله ) أي أخبر متلبسا بإشهاد الله ، أو أعد أو أعلق متلبسا بإشهاد الله على تحقيق ذلك ، فمن أجل ذلك تضمن اليمين معنى قويا في الصدق ، لأن من أشهد بالله على باطل فقد اجترأ عليه واستخف به ، ومما يدل على أن أصل اليمين إشهاد الله ، قوله تعالى : ويشهد الله على ما في قلبه كما تقدم ، وقول العرب : يعلم الله ، في مقام الحلف المغلظ ، ولأجله كانت الباء هي أصل حروف القسم ، لدلالتها على الملابسة في أصل معانيها ، وكانت الواو والتاء لاحقتين بها في القسم الإنشائي دون الاستعطافي .
ومعنى الآية إن كانت العرضة بمعنى الحاجز ، نهي المسلمين عن أن يجعلوا اسم الله حائلا معنويا دون فعل ما حلفوا على تركه من البر ، والتقوى ، والإصلاح بين الناس فاللام للتعليل ، وهي متعلقة بـ تجعلوا ، و أن تبروا متعلق بـ " عرضة " على حذف اللام الجارة ، المطرد حذفها مع " أن " ، أي ولا تجعلوا الله لأجل أن حلفتم به عرضة حاجزا عن فعل البر ، والإصلاح ، والتقوى ، فالآية على هذا الوجه ، نهي عن المحافظة على اليمين إذا كانت المحافظة عليها تمنع من فعل خير شرعي ، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحذوف على تركه ، ومن لوازمه التحرز حين الحلف وعدم التسرع للأيمان ، إذ لا ينبغي التعرض لكثرة الترخص .
وقد كانت العرب في الجاهلية تغضب ، فتقسم بالله ، وبآلهتها ، وبآبائها ، على الامتناع من شيء ، ليسدوا باليمين باب المراجعة أو الندامة .
وفي الكشاف كان الرجل يحلف على ترك الخير : من صلة الرحم ، أو إصلاح ذات البين ، أو إحسان ، ثم يقول أخاف أن أحنث في يميني ، فيترك فعل البر فتكون الآية واردة لإصلاح خلل من أحوالهم .
وقد قيل إن سبب نزولها حلف أبي بكر : ألا ينفق على ابن خالته . لأنه ممن خاضوا في الإفك . ولا تظهر لهذا القول مناسبة بموقع الآية . مسطح بن أثاثة
وقيل : نزلت في حلف : ألا يكلم ختنه عبد الله بن رواحة بشير بن النعمان الأنصاري ، [ ص: 379 ] وكان قد طلق أخت عبد الله ثم أراد الرجوع والصلح ، فحلف عبد الله ألا يصلح بينهما .
وإما على تقدير أن تكون العرضة بمعنى الشيء المعرض لفعل في غرض ، فالمعنى : لا تجعلوا اسم الله معرضا لأن تحلفوا به في الامتناع من البر ، والتقوى ، والإصلاح بين الناس ، فالأيمان على ظاهره ، وهي الأقسام واللام متعلقة بعرضة ، وأن تبروا مفعول الأيمان ، بتقدير " لا " محذوفة بعد " أن " والتقدير : ألا تبروا ، نظير قوله تعالى يبين الله لكم أن تضلوا وهو كثير فتكون الآية نهيا عن الحلف بالله على ترك الطاعات ; لأن تعظيم الله لا ينبغي أن يكون سببا في قطع ما أمر الله بفعله ، وهذا النهي يستلزم : أنه إن وقع الحلف على ترك البر والتقوى والإصلاح ، أنه لا حرج في ذلك ، وأنه يكفر عن يمينه ويفعل الخير .
أو معناه : لا تجعلوا اسم الله معرضا للحلف ، كما قلنا ، ويكون قوله أن تبروا مفعولا لأجله ، وهو علة للنهي; أي إنما نهيتكم لتكونوا أبرارا ، أتقياء ، مصلحين ، وفي قريب من هذا ، قال مالك : بلغني أنه الحلف بالله في كل شيء . وعليه فتكون الآية نهيا عن الإسراع بالحلف ، لأن كثرة الحلف . تعرض الحالف للحنث . وكانت كثرة الأيمان من عادات الجاهلية ، في جملة العوائد الناشئة عن الغضب ونعر الحمق ، فنهى الإسلام عن ذلك ولذلك تمدحوا بقلة الأيمان قال كثير :
قليل الألايي حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت
وقوله والله سميع عليم تذييل ، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات ، والمقصود لازمه : وهو الوعد على الامتثال ، على جميع التقادير ، والعذر في الحنث على التقدير الأول ، والتحذير من الحلف ، على التقدير الثاني .
وقد دلت الآية على معنى عظيم : وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يجعل وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير ، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى ، وتصديق الشهادة به على الفعل المحلوف عليه ، وهذا وإن كان مقصدا جليلا يشكر عليه الحالف ، الطالب للبر ; لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضى به الله تعالى ، فقد تعارض أمران [ ص: 380 ] مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر . والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له ، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه ، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح ، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط ، إذ قد علم الله تعالى : أن تعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث ، فبر اليمين أدب مع اسم الله تعالى ، والإتيان بالأعمال الصالحة مرضاة لله; فأمر الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه ، كما قيل : الامتثال مقدم على الأدب . وقد قال النبيء صلى الله عليه وسلم : ، ولأجل ذلك لما أقسم إني لا أحلف على يمين ، فأرى غيرها خيرا منها ، إلا كفرت عن يميني ، وفعلت الذي هو خير أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة ، أمره الله أن يأخذ ضغثا من مائة عصا فيضربها به ، وقد علم الله أن هذا غير مقصد أيوب ; ولكن لما لم يرض الله من أيوب أن يضرب امرأته ، نهاه عن ذلك ، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه ، وكراهته أن يتخلف منه معتاده في تعظيم اسم ربه ، فهذا وجه من التحلة ، أفتى الله به نبيه ، ولعل الكفارة لم تكن مشروعة . فهي من يسر الإسلام وسماحته . فقد كفانا الله ذلك إذ شرع لنا تحلة اليمين بالكفارة; ولذلك صار لا يجزئ في الإسلام ، أن يفعل الحالف مثل ما فعل أيوب .