من السماء والأرض يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم لما جرى ذكر رحمة الله التي تعم الناس كلهم أقبل على خطابهم بأن يتذكروا [ ص: 254 ] نعمة الله عليهم الخاصة وهي النعمة التي تخص كل واحد بخاصته فيأتلف منها مجموع الرحمة العامة للناس كلهم وما هي إلا بعض رحمة الله بمخلوقاته .
والمقصود من تذكر النعمة شكرها وقدرها قدرها . ومن أكبر تلك النعم نعمة الرسالة المحمدية التي هي وسيلة فوز الناس الذين يتبعونها بالنعيم الأبدي . فالمراد بالذكر هنا التذكر بالقلب وباللسان فهو من عموم المشترك أو من إرادة القدر المشترك فإن الذكر باللسان والذكر بالقلب يستلزم أحدهما الآخر وإلا لكان الأول هذيانا والثاني كتمانا . قال أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه ، أي وفي كليهما فضل . عمر بن الخطاب
ووصفت النعمة بـ " عليكم " لأن المقصود من التذكر التذكر الذي يترتب عليه الشكر ، وليس المراد مطلق التذكر بمعنى الاعتبار والنظر في بديع فضل الله ، فذلك له مقام آخر ، على أن قوله هل من خالق غير الله يرزقكم قد تضمن الدعوة إلى النظر في دليل الوحدانية والقدرة والفضل .
والاستفهام إنكاري في معنى النفي ولذلك اقترن ما بعده بـ " من " التي تزاد لتأكيد النفي ، واختير الاستفهام بـ " هل " دون الهمزة لما في أصل معنى " هل " من الدلالة على التحقيق والتصديق لأنها في الأصل بمعنى " قد " وتفيد تأكيد النفي .
والاهتمام بهذا الاستثناء قدم في الذكر قبل ما هو في قوة المستثنى منه . وجعل صفة لـ " خالق " لأن " غير " صالحة للاعتبارين ولذلك جرت القراءات المشهورة على اعتبار " غير " هنا وصفا لـ " خالق " ، فجمهور القراء قرءوه برفع " غير " على اعتبار محل " خالق " المجرور بـ " من " لأن محله رفع بالابتداء . وإنما لم يظهر الرفع للاشتغال بحركة حرف الجر الزائد . وقرأه حمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف بالجر على إتباع اللفظ دون المحل . وهما استعمالان فصيحان في مثله اهتم بالتنبيه عليهما في كتابه . سيبويه
وجملة يرزقكم يجوز أن تكون وصفا ثانيا لـ " خالق " ، ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا .
وجعل النفي متوجها إلى القيد وهو جملة الصفة كما هي سنته في الكلام المقيد [ ص: 255 ] لأن المقصود التذكير بنعم الله تعالى ليشكروا ، ويكون ذلك كناية عن الاستدلال على انتفاء وصف الخالقية عن غيره تعالى لأنه لو كان غيره خالقا لكان رازقا إذ الخلق بدون رزق قصور في الخالقية لأن المخلوق بدون رزق لا يلبث أن يصير إلى الهلاك والعدم فيكون خلقه عبثا ينزه عنه الموصوف بالإلهية المقتضية للحكمة فكانت الآية مذكرة بنعمتي الإيجاد والإمداد .
وزيادة من السماء والأرض تذكير بتعدد مصادر الأرزاق ، فإن منها سماوية كالمطر الذي منه شراب ، ومنه طهور ، وسبب نبات أشجار وكلأ ، وكالمن الذي ينزل على شجر خاص من أندية في الجو ، وكالضياء من الشمس ، والاهتداء بالنجوم في الليل ، وكذلك أنواع الطير الذي يصاد ، كل ذلك من السماء .
ومن الأرض أرزاق كثيرة من حبوب وثمار وزيوت وفواكه ومعادن وكلأ وكمأة وأسماك البحار والأنهار .
وفي هذا القيد فائدة أخرى وهي دفع توهم الغفل أن أرزاقا تأتيهم من غير الله من أنواع العطايا التي يعطيها بعضهم بعضا ، والمعاوضات التي يعاوضها بعضهم مع بعض فإنها لكثرة تداولها بينهم قد يلهيهم الشغل بها عن التدبر في أصول منابعها فإن أصول موادها من صنع الله تعالى فآل ما يعطاه الناس منها إلى أنه من الله على نحو ما عرض للذي حاج إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال : أنا أحيي وأميت فهذا رجل محكوم بقتله ها أنا ذا أعفو عنه فقد أحييته ، وهذا رجل حي ها أنا ذا آمر به فيقتل فأنا أميت . فانتقل إبراهيم إلى أن قال له فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب .