" لا يسمعون إلى الملإ الأعلى ويقذفون من كل جانب دحورا ولهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " اعتراض بين جملة إنا زينا السماء الدنيا وجملة فاستفتهم أهم أشد خلقا قصد منه وصف قصة طرد الشياطين .
وعلى تقدير قوله " وحفظا " مصدرا نائبا مناب فعله يجوز جعل جملة ( لا يسمعون ) بيانا لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة ( وحفظا ) على حد قوله تعالى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك الآية ، أي انتفى بذلك الحفظ سمع الشياطين للملأ الأعلى .
[ ص: 92 ] وحرف ( إلى ) يشير إلى تضمين فعل ( يسمعون ) معنى ينتهون فيسمعون ، أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من علم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة ، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون . وفي الكشاف : أن " سمعت " المعدى بنفسه يفيد الإدراك ، " وسمعت " المعدى بـ ( إلى ) يفيد الإصغاء مع الإدراك .
وقرأ الجمهور " لا يسمعون " بسكون السين وتخفيف الميم . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف " لا يسمعون " بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله : لا يتسمعون فقلبت التاء سينا توصلا إلى الإدغام ، والتسمع : تطلب السمع وتكلفه ، فالمراد التسمع المباشر ، وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الأعلى ، أي أنهم يدحرون من قبل وصولهم المكان المطلوب ، والقراءتان في معنى واحد .
وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح .
وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيئا من الملأ الأعلى ، وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالما كما دل عليه قوله ( إلا من خطف الخطفة ) ، فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - حرمت الشياطين من ذلك .
والملأ : الجماعة أهل الشأن والقدر . والمراد بهم هنا الملائكة . ووصف الملأ بـ ( الأعلى ) لتشريف الموصوف .
والقذف : الرجم ، والجانب : الجهة ، والدحور : الطرد . وانتصب على أنه مفعول مطلق لـ ( يقذفون ) ، وإسناد فعل يقذفون للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكلون بالحفظ المشار إليه [ ص: 93 ] في قوله تعالى وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا .
والعذاب الواصب : الدائم يقال : وصب يصب وصوبا ، إذا دام . والمعنى : أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة ، فإن الشياطين للنار فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا في سورة مريم ، ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب ، أي لا ينفك عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولتهم .
وجملة ولهم عذاب واصب معترضة بين الجملة المشتملة على المستثنى منه وهي جملة لا يسمعون إلى الملأ الأعلى وبين الاستثناء .
و ( من خطف الخطفة ) مستثنى من ضمير ( لا يسمعون ) فهو في محل رفع إلى البدلية منه .
والخطف : ابتدار تناول شيء بسرعة ، والخطفة المرة منه . فهو مفعول مطلق لـ ( خطف ) لبيان عدد مرات المصدر ، أي : خطفة واحدة ، وهو هنا مستعار للإسراع بسمع ما يستطيعون سمعه من كلام غير تام كقوله تعالى يكاد البرق يخطف أبصارهم في سورة البقرة .
و ( أتبعه ) بمعنى تبعه ؛ فهمزته لا تفيده تعدية ، وهي كهمزة أبان بمعنى بان .
والشهاب : القبس والجمر من النار . والمراد به هنا ما يسمى بالنيزك في اصطلاح علم الهيئة ، وتقدم في قوله فأتبعه شهاب مبين في سورة الحجر .
والثاقب : الخارق ، أي الذي يترك ثقبا في الجسم الذي يصيبه ، أي : ثاقب له . وعن : الشهاب لا يقتل الشيطان الذي يصيبه ولكنه يحترق ويخبل ، أي يفسد قوامه فتزول خصائصه ، فإن لم يضمحل فإنه يصبح غير قادر على محاولة استراق السمع مرة أخرى ، أي إلا من تمكن من الدنو إلى محل يسمع فيه كلمات من كلمات الملأ الأعلى فيردف بشهاب يثقبه فلا يرجع إلى حيث صدر ، وهذا من خصائص ما بعد البعثة المحمدية . ابن عباس
وقد تقدم الكلام على استراق السمع عند قوله تعالى وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم في سورة الشعراء .