[ ص: 104 ] وعبر عن إقبالهم بصيغة المضي وهو مما سيقع في القيامة ، تنبيها على تحقيق وقوعه ؛ لأن لذلك مزيد تأثير في تحذير زعمائهم من التغرير بهم ، وتحذير دهمائهم من الاعتزاز بتغريرهم ، مع أن قرينة الاستقبال ظاهرة من السياق من قوله " فإذا هم ينظرون " الآية .
والإقبال : المجيء من جهة قبل الشيء ، أي من جهة وجهه وهو مجيء المتجاهر بمجيئه غير المتختل الخائف . واستعير هنا للقصد بالكلام والاهتمام به كأنه جاءه من مكان آخر .
فحاصل المعنى حكاية عتاب ولوم توجه به الذين اتبعوا على قادتهم وزعمائهم ، ودلالة التركيب عليه أن يكون الإتيان أطلق على الدعاية والخطابة فيهم لأن الإتيان يتضمن القصد دون إرادة مجيء ، كقول النابغة :
أتاك امرؤ مستبطن لي بغضة
وقد تقدم استعماله واستعمال مرادفه وهو المجيء معا في قوله تعالى قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وأتيناك بالحق الآية في سورة الحجر .أو أن يكون اليمين مرادا به جهة الخير لأن العرب تضيف الخير إلى جهة اليمين . وقد اشتقت من اليمن وهو البركة ، وهي مؤذنة بالفوز بالمطلوب عندهم . وعلى ذلك جرت عقائدهم في زجر الطير والوحش من التيمن بالسانح ، وهو الوارد من جهة يمين السائر ، والتشاؤم ، أي ترقب ورود الشر من جهة الشمال .
وكان حق فعل " تأتوننا " أن يعدى إلى جهة اليمين بحرف ( من ) ، فلما عدي بحرف ( عن ) الذي هو للمجازة تعين تضمين " تأتوننا " معنى " تصدوننا " ليلائم معنى المجاوزة ، أي تأتوننا صاديننا عن اليمين ، أي عن الخير . فهذا وجه تفسير الآية الذي اعتمده ابن عطية وقد اضطرب كثير في تفسيرها . قال والزمخشري ابن عطية ما خلاصته : اضطرب المتأولون في معنى قولهم " عن اليمين " فعبر عنه ابن زيد وغيره بطريق الجنة ، ونحو هذا من العبارات التي هي تفسير بالمعنى ولا تختص بنفس اللفظة ، وبعضهم أيضا نحا في تفسيره إلى ما يخص اللفظة فتحصل من ذلك معان منها : أن يريد باليمين القوة والشدة ( قلت : وهو عن ابن عباس [ ص: 105 ] فكأنهم قالوا : إنكم كنتم تغروننا بقوة منكم ، ومن المعاني التي تحتملها الآية أن يريدوا : تأتوننا من الجهة التي يحسنها تمويهكم وإغواؤكم وتظهرون فيها أنها جهة الرشد ، وهو عن والفراء الزجاج والجبائي ، ومما تحتمله الآية أن يريدوا : إنكم كنتم تأتوننا ، أي تقطعون بنا عن أخبار الخير واليمن ، فعبروا عنها باليمين ، ومن المعاني أن يريدوا : أنكم تجيئون من جهة الشهوات وعدم النظر لأن جهة يمين الإنسان فيها كبده ، وجهة شماله فيها قلبه ، وأن نظر الإنسان في قلبه ، وقيل : تحلفون لنا . اهـ .
وجواب الزعماء بقولهم بل لم تكونوا مؤمنين إضراب إبطال لزعم الأتباع أنهم الذين صدوهم عن طريق الخير ، أي بل هم لم يكونوا ممن يقبل الإيمان لأن تسليط النفي على فعل الكون دون أن يقال : بل لم تؤمنوا ، مشعر بأن الإيمان لم يكن من شأنهم ، أي بل كنتم أنتم الآبين قبول الإيمان . وما كان لنا عليكم من سلطان أي من قهر وغلبة حتى نكرهكم على رفض الإيمان ، ولذلك أكدوا هذا المعنى بقولهم : بل كنتم قوما طاغين ، أي كان الطغيان ، وهو التكبر عن قبول دعوة رجل منكم ، شأنكم وسجيتكم ، فلذلك أقحموا لفظ " قوما " بين " كان " وخبرها لأن استحضارهم بعنوان القومية في الطغيان يؤذن بأن الطغيان من مقومات قوميتهم ، كما قدمنا عند قوله تعالى لآيات لقوم يعقلون في سورة البقرة .
وفرعوا على كلامهم اعترافهم بأنهم جميعا استحقوا العذاب ، فقولهم فحق علينا قول ربنا إنا لذائقون ، تفريع الاعتراض ، أي كان أمر ربنا بإذاقتنا عذاب جهنم حقا . وفعل ( حق ) بمعنى ثبت .
وجملة " إنا لذائقون " بيان ل " قول ربنا " .
وحكي القول بالمعنى على طريقة الالتفات ، ولولا الالتفات لقال : " إنكم لذائقون " أو إنهم " لذائقون " .
ونكتة الالتفات زيادة التنصيص على المعني بذوق العذاب .
وحذف مفعول " ذائقون " لدلالة المقام عليه وهو الأمر بقوله تعالى فاهدوهم إلى صراط الجحيم .
[ ص: 106 ] وفرعوا على مضمون ردهم عليهم من قولهم بل لم تكونوا مؤمنين إلى قوما طاغين قولهم فأغويناكم ، أي ما أكرهناكم على الشرك ولكنا وجدناكم متمسكين به وراغبين فيه فأغويناكم ، أي فأيدناكم في غوايتكم إنا كنا غاوين ، فسولنا لكم ما اخترناه لأنفسنا ، فموقع جملة " إنا كنا غاوين " موقع العلة .
و ( إن ) مغنية غناء لام التعليل وفاء التفريع كما ذكرناه غير مرة .
وزيادة " كنا " للدلالة على تمكين الغواية من نفوسهم ، وقد استبان لهم أن ما كانوا عليه غواية فأقروا بها ، وقد قدمنا عند قوله تعالى في سورة المؤمنين فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون أن تساؤلهم المنفي هنالك هو طلب بعضهم من بعض النجدة والنصرة ، وأن تساؤلهم هنا تساؤل عن أسباب ورطتهم فلا تعارض بين الآيتين .