قسم بالقرآن ، والقسم به كناية عن التنويه بشأنه لأن القسم لا يكون إلا بعظيم عند المقسم فكان التعظيم من لوازم القسم .
وأتبع هذا التنويه الكنائي بتنويه صريح بوصف القرآن بـ " المجيد " فالمجيد المتصف بقوة المجد . والمجد ويقال المجادة : الشرف الكامل وكرم النوع .
[ ص: 277 ] وشرف القرآن من بين أنواع الكلام أنه مشتمل على أعلى المعاني النافعة لصلاح الناس فذلك مجده .
وأما كمال مجده الذي دلت عليه صيغة المبالغة بوصف " مجيد " فذلك بأنه يفوق أفضل ما أبلغه الله للناس من أنواع الكلام الدال على مراد الله تعالى إذ أوجد ألفاظه وتراكيبه وصورة نظمه بقدرته دون واسطة ، فإن أكثر الكلام الدال على مراد الله تعالى أوجده الرسل والأنبياء المتكلمون به يعبرون بكلامهم عما يلقى إليهم من الوحي .
ويدخل في كمال مجده أنه يفوق كل كلام أوجده الله تعالى بقدرته على سبيل خرق العادة مثل الكلام الذي كلم الله به موسى عليه السلام بدون واسطة الملائكة ، ومثل ما أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم من أقوال الله تعالى المعبر عنه في اصطلاح علمائنا بالحديث القدسي ، فإن القرآن يفوق ذلك كله لما جعله الله بأفصح اللغات وجعله معجزا لبلغاء أهل تلك اللغة عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه .
ويفوق كل كلام من ذلك القبيل بوفرة معانيه وعدم انحصارها ، وأيضا بأنه تميز على سائر الكتب الدينية بأنه لا ينسخه كتاب يجيء بعده وما ينسخ منه إلا شيء قليل ينسخه بعضه .
وجواب القسم محذوف لتذهب نفس السامع في تقديره كل طريق ممكن في المقام فيدل عليه ابتداء السورة بحرف ق المشعر بالنداء على عجزهم عن معارضة القرآن بعد تحديهم بذلك ، أو يدل عليه الإضراب في قوله : بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم .
والتقدير : والقرآن المجيد إنك لرسول الله بالحق ، كما صرح به في قوله : يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم . أو يقدر الجواب : إنه لتنزيل من رب العالمين ، أو نحو ذلك كما صرح به في نحو حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ونحو ذلك . والإضراب الانتقالي يقتضي كلاما منتقلا منه والقسم بدون جواب لا يعتبر كلاما تاما فتعين أن يقدر السامع جوابا تتم به الفائدة يدل عليه الكلام .
[ ص: 278 ] وهذا من إيجاز الحذف وحسنه أن الانتقال مشعر بأهمية المنتقل إليه ، أي عد عما تريد تقديره من جواب ، وانتقل إلى بيان سبب إنكارهم الذي حدا بنا إلى القسم كقول القائل : دع ذا ، وقول امرئ القيس :
فدع ذا وسل الهم عنك بجسرة ذمول إذا صام النهار وهجرا
وقول الأعشى :
فدع ذا ولكن رب أرض متيهة قطعت بحرجوج إذا الليل أظلما
وتقدم بيان نظيره عند قوله تعالى : بل الذين كفروا في عزة وشقاق في سورة ص .
وقوله : " عجبوا " خبر مستعمل في الإنكار إنكارا لعجبهم البالغ حد الإحالة .
و " عجبوا " حصل لهم العجب بفتح الجيم وهو الأمر غير المألوف للشخص قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله فإن الاستفهام في أتعجبين إنكار وإنما تنكر إحالة ذلك لا كونه موجب تعجب . فالمعنى هنا : أنهم نفوا جواز أن يرسل الله إليهم بشرا مثلهم ، قال تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا .
وضمير " عجبوا " عائد إلى غير مذكور ، فمعاده معلوم من السياق أعني افتتاح السورة بحرف التهجي الذي قصد منه تعجيزهم عن الإتيان بمثل القرآن لأن عجزهم عن الإتيان بمثله في حال أنه مركب من حروف لغتهم يدلهم على أنه ليس بكلام بشر بل هو كلام أبدعته قدرة الله وأبلغه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على لسان الملك فإن المتحدين بالإعجاز مشهورون يعلمهم المسلمون وهم أيضا يعلمون أنهم المعنيون بالتحدي بالإعجاز . على أنه سيأتي ما يفسر الضمير بقوله : " فقال الكافرون " .
وضمير " منهم " عائد إلى ما عاد إليه ضمير " عجبوا " . والمراد : أنه من نوعهم أي من بني الإنسان .
[ ص: 279 ] و " أن جاءهم " مجرور بـ ( من ) المحذوفة مع ( أن ) ، أي عجبوا من مجيء منذر منهم ، أو عجبوا من ادعاء أن جاءهم منذر منهم .
وعبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف منذر وهو المخبر بشر سيكون ، للإيماء إلى أن عجبهم كان ناشئا عن صفتين في الرسول صلى الله عليه وسلم إحداهما أنه مخبر بعذاب يكون بعد الموت ، أي مخبر بما لا يصدقون بوقوعه ، وإنما أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بعذاب الآخرة بعد البعث كما قال تعالى : إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد .
والثانية : كونه من نوع البشر .
وفرع على التكذيب الحاصل في نفوسهم ذكر مقالتهم التي تفصح عنه وعن شبهتهم الباطلة بقوله فقال الكافرون هذا شيء عجيب الآية .
وخص هذا بالعناية بالذكر لأنه أدخل عندهم في الاستبعاد وأحق بالإنكار فهو الذي غرهم فأحالوا أن يرسل الله إليهم أحدا من نوعهم ولذلك وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء بصفة منذر قبل وصفه بأنه منهم ليدل على أن ما أنذرهم به هو الباعث الأصلي لتكذيبهم إياه وأن كونه منهم إنما قوى الاستبعاد والتعجب .
ثم إن ذلك يتخلص منه إلى إبطال حجتهم وإثبات البعث وهو المقصود بقوله قد علمنا ما تنقص الأرض منهم إلى قوله كذلك الخروج .
فقد حصل في ضمن هاتين الفاصلتين خصوصيات كثيرة من البلاغة : منها إيجاز الحذف ، ومنها ما أفاده الإضراب من الاهتمام بأمر البعث ، ومنها الإيجاز البديع الحاصل من التعبير بـ " منذر " ، ومنها إقحام وصفه بأنه منهم لأن لذلك مدخلا في تعجبهم ، ومنها الإظهار في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر ، ومنها الإجمال المعقب بالتفصيل في قوله : هذا شيء عجيب أئذا متنا إلخ .
وعبر عنهم بالاسم الظاهر في " فقال الكافرون " دون : فقالوا ، لتوسيمهم فإن هذه المقالة من آثار الكفر ، وليكون فيه تفسير للضميرين السابقين .
[ ص: 280 ] والإشارة بقولهم " هذا شيء عجيب " إلى ما هو جار في مقام مقالتهم تلك من دعاء النبيء صلى الله عليه وسلم إياهم للإيمان بالرجع ، أي البعث وهو الذي بينته جملة " أئذا متنا وكنا ترابا " إلخ .
والاستفهام مستعمل في التعجيب والإبطال ، يريدون تعجيب السامعين من ذلك تعجيب إحالة لئلا يؤمنوا به .
وجعلوا مناط التعجيب الزمان الذي أفادته ( إذا ) وما أضيف إليه ، أي زمن موتنا وكوننا ترابا .
والمستفهم عنه محذوف دل عليه ظرف " أئذا متنا وكنا ترابا " والتقدير : أنرجع إلى الحياة في حين انعدام الحياة منا بالموت وحين تفتت الجسد وصيرورته ترابا ، وذلك عندهم أقصى الاستبعاد .
ومتعلق ( إذا ) هو المستفهم عنه المحذوف المقدر ، أي نرجع أو نعود إلى الحياة وهذه الجملة مستقلة بنفسها .
وجملة " ذلك رجع بعيد " مؤكدة لجملة " أئذا متنا وكنا ترابا " بطريق الحقيقة والذكر ، بعد أن أفيد بطريق المجاز والحذف ، لأن شأن التأكيد أن يكون أجلى دلالة .
والرجع : مصدر رجع ، أي الرجوع إلى الحياة .
ومعنى " بعيد " أنه بعيد عن تصور العقل ، أي هو أمر مستحيل .