هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنى عليه ونعلم ما توسوس به نفسه الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله : قد علمنا ما تنقص الأرض منهم ولينتقل الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استرسل في وصفه من قوله : إذ يتلقى المتلقيان إلخ .
ووصف البعث وصف الجزاء من قوله : ونفخ في الصور إلى قوله : ولدينا مزيد .
وتأكيد هذا الخبر باللام و " ( قد ) مراعى فيه المتعاطفات وهي ( نعلم ما توسوس به نفسه ) لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم .
و " الإنسان " يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولا المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر ، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده ذلك ما كنت منه تحيد وقوله : لقد كنت في غفلة من هذا وقوله ذلك يوم الوعيد .
والباء في قوله ( به ) زائدة لتأكيد اللصوق ، والضمير عائد الصلة كأنه قيل : ما تتكلمه نفسه على طريقة وامسحوا برءوسكم .
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه على بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم . سعة علم الله تعالى
والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضي ظاهر ، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى ، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله .
[ ص: 300 ] وجملة ونحن أقرب إليه من حبل الوريد في موضع الحال من ضمير " ونعلم " .
والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان ، ومعنى توسوس تتكلم كلاما خفيا همسا . ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازا على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض .
والحبل : هنا واحد حبال الجسم . وهي العروق الغليظة المعروفة في الطب بالشرايين ، واحدها : شريان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجويف الأيسر من تجويفي القلب . وللشرايين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء . وللشرايين أسماء باعتبار مصابها من الأعضاء الرئيسية .
والوريد : واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب . واسمه في علم الطب أورطي ويتشعب إلى ثلاث شعب ثالثتهما تنقسم إلى قسمين قسم أكبر وقسم أصغر . وهذا الأصيغر يخرج منه شريانان يسميان السباتي ويصعدان يمينا ويسارا مع الودجين ، وكل هذه الأقسام يسمى الوريد . وفي الجسد وريدان وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه .
وقد تختلف أسماء أجزائه باختلاف مواقعها من الجسد فهو في العنق يسمى الوريد ، وفي القلب يسمى الوتين ، وفي الظهر يسمى الأبهر ، وفي الذراع والفخذ يسمونه الأكحل والنسا ، وفي الخنصر يدعى الأسلم .
وإضافة " حبل " إلى " الوريد " بيانية ، أي الحبل الذي هو الوريد ، فإن إضافة الأعم إلى الأخص إذا وقعت في الكلام كانت إضافة بيانية ، كقولهم : شجر الأراك .
[ ص: 301 ] والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الاطلاع ، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس ، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز .
ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه ، وكذلك قرب الله من الإنسان بعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد . وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كل تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء . مثل قولهم : هو منه مقعد القابلة ومعقد الإزار ، وقول زهير :
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وقول حنظلة بن سيار وهو حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي مخضرم :
كل امرئ مصبح في إهله والموت أدنى من شراك نعله