انتقال من وصف جزاء المجرمين إلى ثواب المتقين . والجملة عطف على جملة يعرف المجرمون بسيماهم إلى آخرها ، وهو أظهر لأن قوله في آخرها يطوفون بينها وبين حميم آن يفيد معنى أنهم فيها .
واللام في لمن خاف لام الملك ، أي يعطى من خاف ربه ويملك جنتين ، ولا شبهة في أن من خاف مقام ربه جنس الخائفين لا خائف معين فهو من صيغ العموم البدلي بمنزلة قولك : وللخائف مقام ربه . وعليه فيجيء النظر في تأويل تثنية جنتان فيجوز أن يكون المراد : جنسين من الجنات .
وقد ذكرت الجنات في القرآن بصيغة الجمع غير مرة وسيجيء بعد هذا قوله ومن دونهما جنتان فالمراد جنسان من الجنات .
ويجوز أن تكون التثنية مستعملة كناية عن التعدد ، وهو استعمال موجود في الكلام الفصيح وفي القرآن قال الله تعالى ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ ص: 265 ] ومنه قولهم : لبيك وسعديك ودواليك ، كقول القوال الطائي من شعر الحماسة :
فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعيا هلم فإن المشرفي الفرائض
أي فقولوا : يا قوم ، وتقدم عند قوله تعالى سنعذبهم مرتين في سورة التوبة . وإيثار صيغة التثنية هنا لمراعاة الفواصل السابقة واللاحقة فقد بنيت قرائن السورة عليها والقرينة ظاهرة وإليه يميل كلام الفراء ، وعلى هذا فجميع ما أجري بصيغة التثنية في شأن الجنتين فمراد به الجمع .وقيل : أريد جنتان لكل متق تحفان بقصره في الجنة كما قال تعالى في صفة جنات الدنيا جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب الآية ، وقال لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال فهما جنتان باعتبار يمنة القصر ويسرته والقصر فاصل بينهما .
والمقام : أصله محل القيام ومصدر ميمي للقيام وعلى الوجهين يستعمل مجازا في الحالة والتلبس كقولك لمن تستجيره : هذا مقام العائذ بك ، ويطلق على الشأن والعظمة ، فإضافة مقام إلى ربه هنا إن كانت على اعتبار المقام للخائف فهو بمعنى الحال ، وإضافته إلى ربه تشبه إضافة المصدر إلى المفعول ، أي مقامه من ربه ، أي بين يديه .
وإن كانت على اعتبار المقام لله تعالى فهو بمعنى الشأن والعظمة . وإضافته كالإضافة إلى الفاعل ، ويحتمل الوجهين قوله تعالى ذلك لمن خاف مقامي في سورة إبراهيم وقوله وأما من خاف مقام ربه في سورة النازعات .
وجملة فبأي آلاء ربكما تكذبان معترضة بين الموصوف والصفة وهي تكرير لنظائرها .
وذواتا : تثنية ذات ، والواو أصلية لأن أصل ذات : ذوة ، والألف التي بعد [ ص: 266 ] الواو إشباع للفتحة لازم للكلمة . وقيل : الألف أصلية وأن أصل ذات : ذوات فخففت في الإفراد وردتها التثنية إلى أصلها وقد تقدم في قوله تعالى وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط في سورة سبأ . وأما الألف التي بعد التاء المثناة الفوقية فهي علامة رفع نائبة عن الضمة .
والأفنان : جمع فنن بفتحتين ، وهو الغصن . والمقصود هنا : أفنان عظيمة كثيرة الإيراق والإثمار بقرينة أن الأفنان لا تخلو عنها الجنات فلا يحتاج إلى ذكر الأفنان لولا قصد ما في التنكير من التعظيم .
وتثنية عينان جار على نحو ما تقدم في تثنية جنتان ، وكذلك تثنية ضميري فيهما ، وضمير تجريان تبع لتثنية معادهما في اللفظ .
فإن كان الجنتان اثنتين لكل من خاف مقام ربه فلكل جنة منهما عين فهما عينان لكل من خاف مقام ربه ، وإن كانت الجنتان جنسين فالتثنية مستعملة في إرادة الجمع ، أي عيون على عدد الجنات ، وكذلك إذا كان المراد من تثنية جنتان الكثرة كما تثنية عينان للكثرة .
وفصل بين الأفنان وبين ذكر الفاكهة بذكر العينين مع أن الفاكهة بالأفنان أنسب ، لأنه لما جرى ذكر الأفنان ، وهي من جمال منظر الجنة أعقب بما هو من محاسن الجنات وهو عيون الماء جمعا للنظيرين ، ثم أعقب ذلك بما هو من جمال المنظر ، أعني : الفواكه في أفنانها ومن ملذات الذوق .
وأما تثنية زوجان فإن الزوج هنا النوع ، وأنواع فواكه الجنة كثيرة وليس لكل فاكهة نوعان : فإما أن نجعل التثنية بمعنى الجمع ونجعل إيثار صيغة التثنية لمراعاة الفاصلة ولأجل المزاوجة مع نظائرها من قوله ولمن خاف مقام ربه جنتان إلى هنا .
وإما أن نجعل تثنية زوجان لكون الفواكه بعضها يؤكل رطبا وبعضها يؤكل يابسا مثل الرطب والتمر والعنب والزبيب ، وأخص الجوز واللوز وجافهما .
[ ص: 267 ] و ( من كل فاكهة ) بيان ل زوجان مقدم على المبين لرعي الفاصلة .
وتخلل هذه الآيات الثلاث بآيات فبأي آلاء ربكما تكذبان جار على وجه الاعتراض وعلى أنه مجرد تكرير كما تقدم أولاها .