وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا أعد الله لهم عذابا شديدا .
لما شرعت للمسلمين أحكام كثيرة من الطلاق ولواحقه ، وكانت كلها تكاليف قد تحجم بعض الأنفس عن إيفاء حق الامتثال لها تكاسلا أو تقصيرا رغب في الامتثال لها بقوله ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ) ، وقوله ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) ، وقوله ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ) ، وقوله ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) .
وحذر الله الناس في خلال ذلك من مخالفتها بقوله ( وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) ، وقوله ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) أعقبها بتحذير عظيم من الوقوع في مخالفة أحكام الله ورسله لقلة العناية بمراقبتهم ، لأن الصغير يثير الجليل ، فذكر المسلمين ( وليسوا ممن يعتوا على أمر ربهم بما حل بأقوام من عقاب عظيم على قلة اكتراثهم بأمر الله ورسله لئلا يسلكوا سبيل التهاون بإقامة الشريعة ، فيلقي بهم ذلك في مهواة الضلال .
وهذا الكلام مقدمة لما يأتي من قوله ( فاتقوا الله يا أولي الألباب ) الآيات فالجملة معطوفة على مجموع الجمل السابقة عطف غرض على غرض .
و ( كأين ) اسم لعدد كثير مبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن و ( كأين ) بمعنى ( كم ) الخبرية . وقد تقدم عند قوله تعالى ( وكأين من نبيء قتل معه ربيون كثير ) في آل عمران .
والمقصود من إفادة التكثير هنا تحقيق أن العذاب الذي نال أهل تلك القرى شيء ملازم لجزائهم على عتوهم عن أمر ربهم ورسله فلا يتوهم متوهم أن ذلك مصادفة في بعض القرى وأنها غير مطردة في جميعهم .
[ ص: 334 ] و ( كأين ) في موضع رفع على الابتداء ، وهو مبني .
وجملة ( عتت عن أمر ربها ) في موضع الخبر ل ( كأين ) .
والمعنى : الإخبار بكثرة ذلك باعتبار ما فرع عليه من قوله ( فحاسبناها ) فالمفرع هو المقصود من الخبر .
والمراد بالقرية : أهلها على حد قوله ( واسأل القرية التي كنا فيها ) بقرينة قوله عقب ذلك ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) إذ جيء بضمير جمع العقلاء .
وإنما أوثر لفظ القرية هنا دون الأمة ونحوها لأن في اجتلاب هذا اللفظ تعريضا بالمشركين من أهل مكة ومشايعة لهم بالنذارة ولذلك كثر في القرآن ذكر أهل القرى في التذكير بعذاب الله في نحو ( وكم من قرية أهلكناها ) .
وفيه تذكير للمسلمين بوعد الله بنصرهم ومحق عدوهم .
والعتو ويقال العتي : تجاوز الحد في الاستكبار والعناد . وضمن معنى الإعراض فعدي بحرف ( عن ) .
والمحاسبة مستعملة في الجزاء على الفعل بما يناسب شدته من شديد العقاب ، تشبيها لتقدير الجزاء بإجراء الحساب بين المتعاملين ، وهو الحساب في الدنيا ، ولذلك جاء ( حاسبناها ) و ( عذبناها ) بصيغة الماضي .
والمعنى : فجازيناها على عتوها جزاء يكافئ طغيانها .
والعذاب النكر : هو عذاب الاستئصال بالغرق ، والخسف ، والرجم ، ونحو ذلك .
وعطف العذاب على الحساب مؤذن بأنه غيره ، فالحساب فيما لقوه قبل الاستئصال من المخوفات وأشراط الإنذار مثل القحط والوباء والعذاب هو ما توعدوا به .
ولك أن تجعل الحساب على حقيقته ويراد به حساب الآخرة . وشدته قوة المناقشة فيه والانتهار على كل سيئة يحاسبون عليها .
[ ص: 335 ] والعذاب : عذاب جهنم ، ويكون الفعل الماضي مستعملا في معنى المستقبل تشبيها للمستقبل بالماضي في تحقق وقوعه مثل قوله ( أتى أمر الله ) ، وقوله ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ) .
والنكر بضمتين ، وبضم فسكون : ما ينكره الرأي من فظاعة كيفيته إنكارا شديدا .
وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب نكرا بضمتين . وقرأه الباقون بسكون الكاف . وتقدم في سورة الكهف .
والفاء في قوله ( فذاقت وبال أمرها ) لتفريع ( فحاسبناها ) ( وعذبناها ) .
والذوق : هنا الإحساس مطلقا ، وهو مجاز مرسل .
والوبيل : صفة مشبهة . يقال : وبل - بالضم - المرعى : إذا كان كلأه وخيما ضارا لما يرعاه .
والأمر : الحال والشأن ، وإضافة الوبال إلى الأمر من إضافة المسبب إلى السبب ، أي ذاقوا الوبال الذي تسبب لهم فيه أمرهم وشأنهم الذي كانوا عليه .
وعاقبة الأمر : آخره وأثره . وهو يشمل العاقبة في الدنيا والآخرة كما دل عليه قوله ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) .
وشبهت عاقبتهم السوأى بخسارة التاجر في بيعه في أنهم لما عتوا حسبوا أنهم أرضوا أنفسهم بإعراضهم عن الرسل وانتصروا عليهم فما لبثوا أن صاروا بمذلة وكما يخسر التاجر في تجره .
وجيء بفعل ( كان ) بصيغة المضي لأن الحديث عن عاقبتها في الدنيا تغليبا . وفي كل ذلك تفظيع لما لحقهم مبالغة في التحذير مما وقعوا فيه .
وجملة ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) بدل اشتمال من جملة ( وكان عاقبة أمرها خسرا ) أو بدل بعض من كل .
[ ص: 336 ] والمراد عذاب الآخرة لأن الإعداد التهيئة وإنما يهيأ الشيء الذي لم يحصل .
وإن جعلت الحساب والعذاب المذكورين آنفا حساب الآخرة وعذابها كما تقدم آنفا فجملة ( أعد الله لهم عذابا شديدا ) استئنافا لبيان أن ذلك متزايد غير مخفف منه كقوله ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) .