[ ص: 8 ] ( قضى ) يتعدى بنفسه إلى مفعول ، كقوله : ( فلما قضى موسى الأجل ) ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدى بإلى أي : وأوحينا أو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت . وعن معناه أعلمناهم ، وعنه أيضا قضينا عليهم ، وعنه أيضا كتبنا . واللام في ( ابن عباس لتفسدن ) جواب قسم ، فإما أن يقدر محذوفا ، ويكون متعلق القضاء محذوفا تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم في الأرض وعلوهم ، ثم أقسم على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة ، فحذف متعلق ( قضينا ) وأبقي منصوب القسم المحذوف . ويجوز أن يكون ( قضينا ) أجري مجرى القسم ، و ( لتفسدن ) جوابه ، كقولهم قضاء الله لأقومن . وقرأ أبو العالية في الكتب على الجمع ، والجمهور على الإفراد فاحتمل أن يريد به الجنس ، والظاهر أن يراد التوراة . وقرأ وابن جبير ابن عباس ونصر بن علي لتفسدن - بضم التاء وفتح السين - مبنيا للمفعول أي : يفسدكم غيركم . فقيل : من الإضلال ، وقيل : من الغلبة . وقرأ وجابر بن زيد عيسى لتفسدن بفتح التاء وضم السين [ ص: 9 ] أي : فسدتم بأنفسكم بارتكاب المعاصي مرتين ، أولاهما : قتل زكرياء - عليه السلام - قاله عن أشياخه ، وقاله السدي ابن مسعود ، وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك ، وقتل بعضهم بعضا ولا يسمعون من وابن عباس زكريا . فقال الله له : قم في قومك أوح على لسانك ، فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب ، فانفلقت له شجرة فدخل فيها ، وأدركه الشيطان فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها حتى قطعوه في وسطها . وقيل : سبب قتل زكريا أنهم اتهموه بمريم ، قيل : قالوا حين حملت مريم : ضيع بنت سيدنا حتى زنت ، فقطعوه بالمنشار في الشجرة ، وقيل : أشعياء قاله ، وإن كان ابن إسحاق زكرياء مات موتا ولم يقتل ، وإن الذي دخل الشجرة وقطع نصفين بالمنشار في وسطها هو أشعياء ، وكان قبل زكرياء وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله والآخرة - قبل يحيى بن زكرياء - وقصد قتل عيسى ابن مريم أعلم الله بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وكفر لنعم الله تعالى في الرسل وفي الكتب وغير ذلك ، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم ، ثم يرحمهم بعد ذلك ، ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور ، فتقع منهم المعاصي وكفر النعم والظلم والقتل والكفر بالله من بعضهم ، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم وتجليهم جلاء مبرحا ، ودل الوجود بعد ذلك على هذا الأمر كله ، قيل : وكان بين آخر الأولى والثانية مائتا سنة وعشر سنين ملكا مؤيدا ثابتا ، وقيل : سبعون سنة . وقال الكلبي : لتعصن في الأرض المقدسة ولتعلن أي : تطغون وتعظمون .
وقرأ " عليا كبيرا " في الموضعين بكسر اللام والياء المشددة . وقراءة الجمهور ( علوا ) والصحيح في فعول المصدر أكثر ، كقوله : ( زيد بن علي وعتوا عتوا كبيرا ) بخلاف الجمع ، فإن الإعلال فيه هو المقيس ، وشذ التصحيح نحو نهو ونهو ، خلافا للفراء إذ جعل ذلك قياسا ( فإذا جاء وعد أولاهما ) أي : موعد أولاهما ; لأن الوعد قد سبق ذلك والموعود هو العقاب . وقال : معناه : وعد عقاب أولاهما . وقيل : الوعد بمعنى الوعيد ، وقيل : بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت ، والضمير في أولاهما عائد على المرتين . الزمخشري
وقرأ الجمهور ( عبادا ) وقرأ الحسن " عبيدا " . قال وزيد بن علي : غزاهم ، ابن عباس وقتادة : جالوت من أهل الجزيرة . وقال ابن جبير وابن إسحاق : غزاهم سنجاريب وجنوده ملك بابل . وقيل : بختنصر ، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس ، وهو خامل يسير في مطبخ الملك ، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم يعلمه الفرس ; لأنه كان يداخلهم ، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم ، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش ، وبعثه وخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ، ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه ، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك . وقيل : هم العمالقة وكانوا كفارا ، وقيل : كان المبعوثون قوما مؤمنين بعثهم الله وأمرهم بغزو بني إسرائيل ، والبعث هنا الإرسال والتسليط . وقال : معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوه ، ولم نمنعهم على أن الله - عز وعلا - أسند بعث الكفرة إلى نفسه فهو كقوله : ( الزمخشري وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون ) وكقول الداعي : وخالف بين كلمتهم ، وأسند الجوس ، وهو التردد خلال الديار بالفساد إليهم ، فتخريب المسجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم . انتهى . وفي قوله : خلينا بينهم وبين ما فعلوا دسيسة الاعتزال .
وقال ابن عطية : ( بعثنا ) يحتمل أن يكون الله أرسل إلى ملك تلك الأمة رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر ، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقى في نفس الملك أي : غزاهم . انتهى . ( أولي بأس شديد ) أي : قتال وحرب شديد لقوتهم ونجدتهم ، وكثرة عددهم وعددهم . وقرأ الجمهور [ ص: 10 ] ( فجاسوا ) بالجيم . وقرأ أبو السمال وطلحة " فحاسوا " بالحاء المهملة . وقرئ ( فتجوسوا ) على وزن تكسروا بالجيم . وقرأ الحسن ( خلال الديار ) واحدا ، ويجمع على خلل كجبل وجبال ، ويجوز أن يكون خلال مفردا كالخلل وهو وسط الديار وما بينها ، والجمهور على أنه في هذه البعثة الأولى خرب بيت المقدس ، ووقع القتل فيهم والجلاء والأسر . وعن ابن عباس ومجاهد : أنه حين غزوا جاس الغازون خلال الديار ، ولم يكن قتل ولا قتال في بني إسرائيل ، وانصرفت عنهم الجيوش . والضمير في ( وكان ) عائد على وعد أولاهما . قال : وكان وعد العقاب وعدا لا بد أن يفعل . انتهى . وقيل : يعود على الجيوش ( الزمخشري ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) هذا إخبار من الله لبني إسرائيل في التوراة ، وجعل ( رددنا ) موضع نرد ، إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد ، لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي ، والكرة : الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليهم ، حتى تابوا ورجعوا عن الفساد ملكوا بيت المقدس قبل الكرة قبل بختنصر ، واستبقاء بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم ، وذكر في سبب ذلك أن ملكا غزا أهل بابل ، وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وأبقى بقيته عندهم ببابل في الذل ، فلما غزاهم ذلك الملك ، وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل ، فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل ، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا . وقيل : الكرة : تقوية طالوت حتى حارب جالوت ، ونصر داود على قتل جالوت . وقال قتادة : كانوا أكثر شرا في زمان داود عليه السلام . وانتصب ( نفيرا ) على التمييز . فقيل : النفير والنافر واحد ، وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته قاله أبو مسلم . وقال : يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد ، وهم المجتمعون للمصير إلى الأعداء . وقيل : النفير مصدر أي : أكثر خروجا إلى الغزو كما في قول الشاعر : الزجاج
فأكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا
ويروى بالحميريين أكرم نفيرا ، والمفضل عليه محذوف قدره ، وأكثر نفيرا مما كنتم وقدره غيره ، وأكثر نفيرا من الأعداء . الزمخشري
( إن أحسنتم ) أي : أطعتم الله كان ثواب الطاعة لأنفسكم ( وإن أسأتم ) بمعصيته كان عقاب الإساءة لأنفسكم ، لا يتعدى الإحسان والإساءة إلى غيركم ، وجواب وإن أسأتم قوله : ( فلها ) على حذف مبتدأ محذوف ، ولها خبره تقديره فالإساءة لها . قال الكرماني : جاء فلها باللام ازدواجا . انتهى . يعني أنه قابل قوله لأنفسكم بقوله فلها . وقال : اللام بمعنى إلى أي : فإليها ترجع الإساءة . وقيل : اللام بمعنى على أي : فعليها كما في قوله : الطبري
فخر صريعا لليدين وللفم
( فإذا جاء وعد الآخرة ) أي : المرة الآخرة في إفسادكم وعلوكم ، وجواب إذا محذوف يدل عليه جواب إذا الأولى ، تقديره بعثناهم عليكم ، وإفسادهم في ذلك بقتل يحيى بن زكريا - عليهما السلام . وسبب قتله فيما روي عن وغيره : أن ملكا أراد أن يتزوج من لا يجوز له نكاحها ، فنهاه ابن عباس يحيى بن زكريا ، وكان لتلك المرأة حاجة كل يوم عند الملك تقضيها ، فألقت أمها إليها أن تسأله عن ذبح يحيى بن زكريا بسبب ما كان منعه من تزوج ابنتها فسألته ذلك ، فدافعها فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فندرت قطرة على الأرض ، فلم تزل تغلي حتى بعث الله عليهم بختنصر وألقي في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن ، فقتل عليه منهم سبعين ألفا . وقال السهيلي : لا يصح أن يكون المبعوث في المرة الآخرة بختنصر ; لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى ، وبختنصر كان قبل عيسى بزمن طويل . وقيل : المبعوث عليهم الإسكندر وبين الإسكندر وعيسى نحو ثلاثمائة سنة ، ولكنه إن أريد بالمرة الأخرى حين قتلوا أشعياء فكان بختنصر [ ص: 11 ] إذ ذاك حيا فهو الذي قتلهم وخرب بيت المقدس واتبعهم إلى مصر ، وأخرجهم منها . وروي عن عبد الله بن الزبير أن الذي غزاهم آخرا ملك اسمه خردوس ، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكرياء قائد له فسكن الدم . وقيل : قتله ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له لاحب . وقال : كان الربيع بن أنس يحيى قد أعطي حسنا وجمالا فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبى ، فقالت لابنتها : سلي أباك رأس يحيى فأعطاها ما سألت .
وقرأ الجمهور ( ليسوءوا ) بلام كي وياء الغيبة وضمير الجمع الغائب العائد على المبعوثين . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر " ليسوء " بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد ، والفاعل المضمر عائد على الله تعالى ، أو على الوعد ، أو على البعث الدال عليه جملة الجزاء المحذوفة . وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي " لنسوء " بالنون التي للعظمة ، وفيها ضمير يعود على الله . وقرأ والكسائي أبي " لنسوءن " بلام الأمر والنون التي للعظمة ونون التوكيد الخفيفة آخرا . وعن علي أيضا " لنسوءن وليسوءن " بالنون والياء ونون التوكيد الشديدة ، وهي لام القسم ، ودخلت لام الأمر في قراءة أبي على المتكلم كقوله : ( ولنحمل خطاياكم ) وجواب إذا هو الجملة الأمرية على تقدير الفاء . وفي مصحف أبي " ليسيء " بياء مضمومة بغير واو . وفي مصحف أنس " ليسوء " وجهكم على الإفراد ، والظاهر أنه أريد بالوجوه الحقيقة ; لأن آثار الأعراض النفسانية في القلب تظهر على الوجه ، ففي الفرح يظهر الإسفار والإشراق ، وفي الحزن يظهر الكلوح والغبرة ، ويحتمل أن يعبر عن الجملة بالوجه ، فإنهم ساءوهم بالقتل والنهب والسبي ، فحصلت الإساءة للذوات كلها أو عن ساداتهم وكبرائهم بالوجوه ، ومنه قولهم في الخطاب يا وجه العرب .
واللام في ( وليدخلوا ) لام كي معطوفا على ما قبلها من لام كي ، ومن قرأ بلام الأمر أو بلام القسم جاز أن يكون وليدخلوا وما بعدها أمرا ، وجاز أن تكون لام كي أي : وبعثناهم ليدخلوا . والمسجد مسجد بيت المقدس ، ومعنى كما دخلوه أول مرة أي : بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ، وهذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتل ولا قتال ولا نهب ، وتقدم الكلام في أول مرة في سورة التوبة . ( وليتبروا ) يهلكوا . وقال قطرب : يهدموا . قال الشاعر :
فما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
والظاهر أن ( ما ) مفعولة بـ يتبروا أي : يهلكوا ما غلبوا عليه من الأقطار ، ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي : مدة استيلائهم عسى ربكم أن يرحمكم بعد المرة الثانية إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي ، وهذه الترجئة ليست لرجوع دولة ، وإنما هي من باب ترحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة أن يتبعوا عيسى ومحمدا - عليهما السلام - فلم يفعلوا . ( وإن عدتم ) إلى المعصية مرة ثالثة عدنا إلى العقوبة ، وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الإتاوة عليهم . وعن الحسن عادوا فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون . وعن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحي من العرب فهم منه في عذاب إلى يوم القيامة . انتهى . ومعنى ( عدنا ) أي : في الدنيا إلى العقوبة . وقال تعالى : ( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) ثم ذكر ما أعد لهم في الآخرة ، وهو جعل جهنم لهم ( حصيرا ) والحصير السجن . قال لبيد :
ومقامه غلب الرجال كأنهم جن لدى باب الحصير قيام
وقال الحسن : يعني فراشا ، وعنه أيضا هو مأخوذ من الحصر ، والذي يظهر أنها حاصرة لهم محيطة بهم من جميع جهاتهم ، فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث ، كما تقول : رحيمة وعليمة ، ولكنه على معنى النسب كقوله السماء منفطر به أي : ذات انفطار .