بسم الله الرحمن الرحيم
( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب )
السفع ، قال : الجذب بشدة ، وسفع بناصية فرسه : جذب ، قال المبرد عمرو بن معدي كرب :
قوم إذا كثر الصياح رأيتهم من بين ملجم مهره أو سافع
وقال مؤرج : معناه الأخذ بلغة قريش ، النادي والندى : المجلس ، ومنه قول الأعرابية : سيد ناديه وثمال عافيه ، وقال زهير :
وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل
الزبانية : ملائكة العذاب ، فقيل : جمع لا واحد له من لفظه ، كعباديد . وقيل : واحدهم زبنية على وزن حدرية وعفرية ، قاله أبو عبيدة ، وقال : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ثم غير للنسب ، كقولهم : إنسي ، وأصله زباني ، قال الكسائي عيسى بن عمر ، والأخفش : واحدهم زابن ، والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه ، ومنه قول الشاعر :
ومستعجب مما يرى من أناتنا ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وقال عتبة بن أبي سفيان : وقد زبنتنا الحرب وزبناها .
( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب )
[ ص: 492 ] هذه السورة مكية ، وصدرها ، وذلك في أول ما نزل من القرآن غار حراء على ما ثبت في صحيح البخاري وغيره ، وقول جابر : أول ما نزل المدثر ، وقول : أول ما نزل الفاتحة ، لا يصح ، وقال أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل ، عن الزمخشري ابن عباس ومجاهد : هي ، وأكثر المفسرين على أن الفاتحة أول ما نزل ثم سورة القلم . انتهى . ولما ذكر فيما قبلها خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك ، ذكره هنا منبها على شيء من أطواره ، وذكر نعمته عليه ، ثم ذكر طغيانه بعد ذلك وما يئول إليه حاله في الآخرة . أول سورة نزلت
وقرأ الجمهور : ( اقرأ ) بهمزة ساكنة ، والأعشى ، عن أبي بكر ، عن عاصم : بحذفها كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها فيقول : قرأ يقرا ، كسعى يسعى ، فلما أمر منه قيل : اقر بحذف الألف ، كما تقول : اسع ، والظاهر تعلق الباء باقرأ وتكون للاستعانة ، ومفعول اقرأ محذوف ، أي اقرأ ما يوحى إليك ، وقيل : ( باسم ربك ) هو المفعول وهو المأمور بقراءته ، كما تقول : اقرأ : الحمد لله . وقيل : المعنى اقرأ في أول كل سورة ، وقراءة بسم الله الرحمن الرحيم . وقال الأخفش : الباء بمعنى على ، أي اقرأ على اسم الله ، كما قالوا في قوله : ( وقال اركبوا فيها بسم الله ) أي على اسم الله . وقيل : المعنى اقرأ القرآن مبتدئا باسم ربك . وقال : محل " باسم ربك " النصب على الحال ، أي اقرأ مفتتحا باسم ربك ، قل : بسم الله ثم اقرأ . انتهى . وهذا قاله قتادة ، المعنى : اقرأ ما أنزل عليك من القرآن مفتتحا باسم ربك ، وقال الزمخشري أبو عبيدة : الباء صلة ، والمعنى اذكر ربك . وقال أيضا : الاسم صلة ، والمعنى اقرأ بعون ربك وتوفيقه ، وجاء باسم ربك ، ولم يأت بلفظ الجلالة لما في لفظ الرب من معنى الذي رباك ونظر في مصلحتك ، وجاء الخطاب ليدل على الاختصاص والتأنيس ، أي ليس لك رب غيره ، ثم جاء بصفة الخالق ، وهو المنشئ للعالم لما كانت العرب تسمي الأصنام أربابا ، أتى بالصفة التي لا يمكن شركة الأصنام فيها ، ولم يذكر متعلق الخلق أولا ، فالمعنى أنه قصد إلى استبداده بالخلق ، فاقتصر أو حذف ، إذ معناه خلق كل شيء .
ثم ذكر ، وخصه من بين المخلوقات لكونه هو المنزل إليه ، وهو أشرف . قال خلق الإنسان : أشرف ما على الأرض ، وفيه دسيسة أن الملك أشرف ، وقال : ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان ، كما قال : ( الزمخشري الرحمن علم القرآن خلق الإنسان ) فقيل : الذي خلق مبهما ، ثم فسره بقوله : خلق تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته . انتهى . والإنسان هنا اسم جنس ، والعلق جمع علقة ، فلذلك جاء من علق ، وإنما ذكر من خلق من علق ؛ لأنهم مقرون به ، ولم يذكر أصلهم آدم ؛ لأنه ليس متقررا عند الكفار فيسبق الفرع ، وترك أصل الخلقة تقريبا لأفهامهم .
ثم جاء الأمر ثانيا تأنيسا له ، كأنه قيل : امض لما أمرت به ، وربك ليس مثل هذه الأرباب ، بل هو الأكرم الذي لا يلحقه نقص . والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم ، إذ كرمه يزيد على كل كرم ، ينعم بالنعم التي لا تحصى ، ويحلم على الجاني ، ويقبل التوبة ، ويتجاوز عن السيئة ، وليس وراء التكرم بإفادة الفوائد العلمية تكرم حيث قال : ( الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ) فدل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على أفضل علم الكتابة ؛ لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ، وما دونت العلوم ، ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأولين ولا مقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولولا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر الخط والقلم لكفى به ، ولبعضهم في الأقلام :
[ ص: 493 ]
ورواقم رقش كمثل أراقم قطف الخطا نيالة أقصى المدى
سود القوائم ما يجد مسيرها إلا إذا لعبت بها بيض المدى
انتهى . من كلام ، ومن غريب ما رأينا تسمية النصارى بهذه الصفة التي هي صفة لله تعالى : الأكرم ، والرشيد ، وفخر السعداء ، وسعيد السعداء ، والشيخ الرشيد ، فيا لها من خزية على من يدعوهم بها ، يجدون عقباها يوم عرض الأقوال والأفعال ، ومفعولا علم محذوفان ، إذ المقصود إسناد التعليم إلى الله تعالى ، وقدر بعضهم ( الذي علم ) الخط ( بالقلم ) وهي قراءة تعزى لابن الزبير ، وهي عندي على سبيل التفسير ، لا على أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف ، والظاهر أن المعلم كل من كتب بالقلم ، وقال الزمخشري الضحاك : إدريس ، وقيل : آدم لأنه أول من كتب ، والإنسان في قوله : ( علم الإنسان ) الظاهر أنه اسم الجنس ، عدد عليه اكتساب العلوم بعد الجهل بها ، وقيل : الرسول عليه الصلاة والسلام .