بسم الله الرحمن الرحيم
( عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة )
تصدى : تعرض ، قال الراعي :
تصدى لوضاح كأن جبينه سراج الدجى يجبى إليه الأساور
وأصله : تصدد من الصدد ، وهو ما استقبلك وصار قبالتك ، يقال : داري صدد داره : أي قبالتها . وقيل : من الصدى ، وهو العطش ، وقيل : من الصدى ، وهو الصوت الذي تسمعه إذا تكلمت من بعد في خلاء كالجبل ، والمصاداة : المعارضة . السفرة : الكتبة ، الواحد سافر ، وسفرت المرأة : كشفت النقاب ، وسفرت بين القوم أسفر سفارة : أصلحت بينهم ، قاله الفراء ، الواحد سفير ، والجمع سفراء ، قال الشاعر :
فما أدع السفارة بين قومي وما أسعى بغش إن مشيت
القضب ، قال الخليل ، الفصفصة الرطبة ، ويقال بالسين ، فإذا يبست فهي القت ، قال : والقضب اسم يقع على ما يقع من أغصان الشجرة ليتخذ منها سهام أو قسي . الغلب جمع غلباء ، يقال : حديقة غلباء : غليظة الشجر ملتفة ، واغلولب العشب : بلغ والتف بعضه ببعض ، ورجل أغلب : غليظ الرقبة ، والأصل في هذا الوصف استعماله في الرقاب ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب :
يسعى بها غلب الرقاب كأنهم بزل كسين من الشعور جلالا
الأب : المرعى لأنه يؤب ، أي يؤم وينتجع ، والأب والأم أخوان ، قال الشاعر :
جذمنا قيس ونجد دارنا ولنا الأب به والمكرع
وقيل : ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيد ، وما أكله غيرهم يسمى الأب ، ومنه قول الصحابة يمدح رسول الله ، صلى الله عليه وسلم :
له دعوة ميمونة ريحها الصبا بها ينبت الله الحصيدة والأبا
( الصاخة ) قال الخليل : صيحة تصخ الآذان صخا ، أي تصمها لشدة وقعتها . وقيل : مأخوذة من صخه بالحجر إذا صكه ، وقال : أصاخ لحديثه مثل أصاخ له . ( الغبرة ) الغبار . القترة : سواد كالدخان . وقال الزمخشري أبو عبيدة : القتر في كلام العرب : الغبار ، جمع القترة . وقال : الفرزدق
متوج برداء الملك يتبعه فوج ترى فوقه الرايات والقترا
[ ص: 426 ] ( عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة قتل الإنسان ما أكفره من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره كلا لما يقض ما أمره فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا وفاكهة وأبا متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الصاخة يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة ) .
هذه السورة مكية ، وسبب نزولها مجيء إليه ، وقد ذكر أهل الحديث وأهل التفسير قصته . ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ذكر [ ص: 427 ] ( ابن أم مكتوم إنما أنت منذر من يخشاها ) ذكر في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه الإنذار ، وهم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يناجيهم في أمر الإسلام : عتبة بن ربيعة ، وأبو جهل ، و أبي ، وأمية ، ويدعوهم إليه .
( أن جاءه ) مفعول من أجله ، أي لأن جاءه ، ويتعلق ب ( تولى ) على مختار البصريين في الأعمال ، وب ( عبس ) على مختار أهل الكوفة . وقرأ الجمهور ( عبس ) مخففا ( أن ) بهمزة واحدة ، : بشد الباء ، وهو وزيد بن علي والحسن ، ، وأبو عمران الجوني وعيسى : أآن بهمزة ومدة بعدها ، وبعض القراء : بهمزتين محققتين ، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام ، وفيهما يقف على تولى . والمعنى : ألأن جاءه كاد كذا . وجاء بضمير الغائب في ( عبس وتولى ) إجلالا له ، عليه الصلاة والسلام ، ولطفا به أن يخاطبه لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى ، وجاء لفظ ( الأعمى ) إشعارا بما يناسب من الرفق به والصغو لما يقصده ، ولابن عطية هنا كلام أضربت عنه صفحا ، والضمير في ( لعله ) عائد على ( الأعمى ) أي يتطهر بما يتلقن من العلم ، أو ( يذكر ) : أي يتعظ ( فتنفعه ) ذكراك ، أي موعظتك ، والظاهر نصب ( يدريك ) على جملة الترجي ، فالمعنى : لا تدري ما هو مترجى منه من تزك أو تذكر . وقيل : المعنى وما يطلعك على أمره وعقبى حاله .
ثم ابتدأ القول : ( لعله يزكى ) أي تنمو بركته ويتطهر لله ، وقال : وقيل : الضمير في ( لعله ) للكافر ، يعني أنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام ، أو يذكر فتقربه الذكرى إلى قبول الحق ، وما يدريك أن ما طمعت فيه كائن . انتهى . وهذا قول ينزه عنه حمل القرآن عليه ، وقرأ الجمهور : ( الزمخشري أو يذكر ) بشد الذال والكاف ، وأصله يتذكر فأدغم ، والأعرج وعاصم في رواية : ( أو يذكر ) ، بسكون الذال وضم الكاف ، وقرأ الجمهور : ( فتنفعه ) برفع العين عطفا على ( أو يذكر ) وعاصم في المشهور ، ، والأعرج وأبو حيوة ، ، وابن أبي عبلة والزعفراني : بنصبهما ، قال ابن عطية : في جواب التمني ، لأن قوله : ( أو يذكر ) في حكم قوله ( لعله يزكى ) . انتهى . وهذا ليس تمنيا ، إنما هو ترج ، وفرق بين الترجي والتمني ، وقال : وبالنصب جوابا للعل ، كقوله : ( الزمخشري فأطلع إلى إله موسى ) . انتهى . والترجي عند البصريين لا جواب له ، فينصب بإضمار أن بعد الفاء . وأما الكوفيون فيقولون : ينصب في جواب الترجي ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في قوله : ( فأطلع إلى إله موسى ) في قراءة حفص ، ووجهنا مذهب البصريين في نصب المضارع .