قال : نزلت في عبدة الشياطين ، وهم ابن مسعود خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم . وقال : في ابن عباس عزير والمسيح وأمه ، وعنه أيضا وعن ابن مسعود وابن زيد والحسن : في عبدة الملائكة ، وعن في عبدة الشمس والقمر والكواكب ابن عباس وعزير والمسيح وأمه . انتهى . ويكون ( الذين زعمتم من دونه ) عاما غلب فيه من يعقل على ما لا يعقل ، والمعنى : ادعوهم فلا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب ، ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر أو يبدلوه . وقرأ الجمهور : ( يدعون ) بياء الغيبة ، وابن مسعود وقتادة بتاء الخطاب ، بياء الغيبة مبنيا للمفعول ، والمعنى : يدعونهم آلهة أو يدعونهم لكشف ما حل بكم من الضر كما حذف من قوله ( وزيد بن علي قل ادعوا ) أي : ادعوهم لكشف الضر .
وفي قوله : ( زعمتم ) ضمير محذوف عائد على ( الذين ) وهو المفعول الأول ، والثاني محذوف تقديره : زعمتموهم آلهة من دون الله ، و ( أولئك ) مبتدأ و ( الذين ) صفته ، والخبر ( يبتغون ) . و ( الوسيلة ) القرب إلى الله تعالى ، والظاهر أن ( أولئك ) إشارة إلى المعبودين ، والواو في ( يدعون ) للعابدين ، والعائد على ( الذين ) منصوب محذوف أي : يدعونهم .
وقال : الإشارة بقوله [ ص: 52 ] ( ابن فورك أولئك ) إلى النبيين الذين تقدم ذكرهم ، والضمير المرفوع في ( يدعون ) و ( يبتغون ) عائد عليهم ، والمعنى : يدعون الناس إلى دين الله ، والمعنى على هذا : أن الذين عظمت منزلتهم ، وهم الأنبياء لا يعبدون إلا الله ، ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه ، فهم أحق بالاقتداء بهم فلا يعبدوا غير الله .
وقرأ الجمهور : ( إلى ربهم ) بضمير الجمع الغائب . وقرأ إلى ربك بالكاف خطابا للرسول ، واختلفوا في إعراب ( ابن مسعود أيهم أقرب ) وتقديره . فقال الحوفي : ( أيهم أقرب ) ابتداء وخبر ، والمعنى : ينظرون ( أيهم أقرب ) فيتوسلون به ، ويجوز أن يكون ( أيهم أقرب ) بدلا من الواو في ( يبتغون ) . انتهى . ففي الوجه الأول أضمر فعل التعليق ، و ( أيهم أقرب ) في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ; لأن نظر إن كان بمعنى الفكر تعدى بـ في ، وإن كانت بصرية تعدت بـ إلى ، فالجملة المعلق عنها الفعل على كلا التقديرين تكون في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ، كقوله : ( فلينظر أيها أزكى طعاما ) وفي إضمار الفعل المعلق نظر ، والوجه الثاني قاله قال : وتكون أي موصولة ، أي : يبتغي من هو أقرب منهم وأزلف الوسيلة إلى الله ، فكيف بغير الأقرب . انتهى . فعلى الوجه يكون ( الزمخشري أقرب ) خبر مبتدأ محذوف ، واحتمل ( أيهم ) أن يكون معربا وهو الوجه ، وأن يكون مبنيا لوجود مسوغ البناء . قال : أو ضمن ( الزمخشري يبتغون ) ( الوسيلة ) معنى يحرصون ، فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله ، وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح ، فيكون قد ضمن ( يبتغون ) معنى فعل قلبي وهو يحرصون حتى يصح التعليق ، وتكون الجملة الابتدائية في موضع نصب على إسقاط حرف الجر ; لأن حرص يتعدى بعلى ، كقوله : ( إن تحرص على هداهم ) .
وقال ابن عطية : و ( أيهم ) ابتداء و ( أقرب ) خبره ، والتقدير : نظرهم وودكهم ( أيهم أقرب ) وهذا كما قال رضي الله عنه : فبات الناس يدوكون أيهم يعطاها ، أي : يتبارون في طلب القرب . فجعل المحذوف نظرهم وودكهم وهذا مبتدأ ، فإن جعلت ( عمر بن الخطاب أيهم أقرب ) في موضع نصب بنظرهم المحذوف بقي المبتدأ الذي هو نظرهم بغير خبر محتاج إلى إضمار الخبر ، وإن جعلت ( أيهم أقرب ) هو الخبر فلا يصح ; لأن نظرهم ليس هو ( أيهم أقرب ) ، وإن جعلت التقدير نظرهم في ( أيهم أقرب ) أي : كائن أو حاصل فلا يصح ذلك ; لأن كائنا وحاصلا ليس مما تعلق .
وقال أبو البقاء : ( أيهم ) مبتدأ و ( أقرب ) خبره ، وهو استفهام في موضع نصب بـ يدعون ، ويجوز أن يكون ( أيهم ) بمعنى الذي وهو بدل من الضمير في ( يدعون ) والتقدير : الذي هو أقرب . انتهى . ففي الوجه الأول علق ( يدعون ) وهو ليس فعلا قلبيا ، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية ، ولا يضر ذلك ; لأنها معمولة للصلة ( ويرجون رحمته ويخافون عذابه ) كغيرهم من عباد الله ، فكيف يزعمون أنهم آلهة ( إن عذاب ربك كان محذورا ) يحذره كل أحد .
و ( إن من قرية ) ( إن ) نافية و ( من ) زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس ، والجملة بعد ( إلا ) خبر المبتدأ . وقيل : المراد الخصوص ، والتقدير : وإن من قرية ظالمة . وقال ابن عطية : ومن لبيان الجنس . انتهى . والتي لبيان الجنس على قول من يثبت لها هذا المعنى هو أن يتقدم قبل ذلك ما يفهم منه إبهام ما فتأتي ( من ) لبيان ما أريد بذلك الذي فيه إبهام ما ، كقوله : ( ما يفتح الله للناس من رحمة ) وهنا لم يتقدم شيء مبهم تكون من فيه بيانا له ، ولعل قوله لبيان الجنس من الناسخ ، ويكون هو قد قال لاستغراق الجنس ، ألا ترى أنه قال بعد ذلك . وقيل : المراد الخصوص . انتهى .
والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة ، وإهلاكها تخريبها وفناؤها ، ويتضمن تخريبها هلاك أهلها بالاستئصال أو شيئا فشيئا أو تعذب ، والمعنى : هلاك أهلها بالقتل وأنواع العذاب . وقيل : الهلاك للصالحة ، والعذاب للطالحة . وقال مقاتل : وجدت في كتب في تفسيرها : أما الضحاك بن مزاحم مكة فتخربها الحبشة ، وتهلك المدينة بالجوع ، والبصرة بالغرق ، والكوفة بالترك ، والجبال بالصواعق والرواجف ، وأما [ ص: 53 ] خراسان فعذابها ضروب ، ثم ذكرها بلدا بلدا ، ونحو ذلك عن ، فذكر فيه أن هلاك وهب بن منبه الأندلس وخرابها يكون بسنابك الخيل ، واختلاف الجيوش . ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) أي : في سابق القضاء أو في اللوح المحفوظ أي : مكتوبا أسطارا ( وما منعنا أن نرسل ) بالآيات عن : أن أهل ابن عباس مكة سألوا أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعون ، اقترحوا ذلك على الرسول - صلى الله عليه وسلم - فأوحى الله إليه إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة ، وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين ، فقال : " " . فنزلت ، واستعير المنع للترك أي : ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلا لتكذيب الأولين بها ، وتكذيب الأولين ليس علة في إرسال الآيات بل تستأني بهم يا رب لقريش ، فالمعنى : إلا اتباعهم طريقة تكذيب الأولين بها ، فتكذيب الأولين فاعل على حذف المضاف ، فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال ، وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم .
وقال : فالمعنى وما صرفنا عن إرسال ما تقترحونه من الآيات إلا أن كذب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم الزمخشري كعاد وثمود ، وإنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك ، وقالوا : هذا سحر مبين كما يقولون في غيرها ، واستوجبوا العذاب المستأصل ، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة ، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة ، وهي ناقة صالح ; لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم . انتهى .
وقرأ الجمهور ( ثمود ) ممنوع الصرف . وقال هارون : أهل الكوفة ينونون ( ثمود ) في كل وجه . وقال أبو حاتم : لا تنون العامة والعلماء بالقرآن ( ثمود ) في وجه من الوجوه ، وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ، ونحن نقرأها بغير ألف . انتهى . وانتصب ( مبصرة ) على الحال ، وهي قراءة الجمهور . وقرأ ( زيد بن علي مبصرة ) بالرفع على إضمار مبتدأ أي : هي مبصرة ، وأضاف الإبصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس ، والتقدير : آية مبصرة . وقرأ قوم : بفتح الصاد اسم مفعول أي : يبصرها الناس ويشاهدونها . وقرأ قتادة بفتح الميم والصاد مفعلة من البصر أي : محل إبصار كقوله :
والكفر مخبثة لنفس المنعم
أجراها مجرى صفات الأمكنة نحو : أرض مسبعة ومكان مضبة ، وقالوا : الولد مبخلة مجبنة ( فظلموا بها ) أي : بعقرها بعد قوله : ( فذروها تأكل في أرض الله ) الآية . وقيل : المعنى : أنهم جحدوا كونها من عند الله ، وقيل : جعلوا التكذيب بها موضع التصديق وهو معنى القول قبله ، والظاهر أن الآيات الأخيرة غير الآيات الأولى ، لوحظ في ذلك وصف الاقتراح ، وفي هذه وصف غير المقترحة ، وهي آيات معها إمهال لا معاجلة كالكسوف والرعد والزلزلة . وقال الحسن : والموت الذريع ، وفي حديث الكسوف : " " . قال فافزعوا إلى الصلاة ابن عطية : وآيات الله المعتبر بها ثلاثة أقسام : قسم عام في كل شيء إذ حيثما وضعت نظرك وجدت آية . وهنا فكرة العلماء ، وقسم معتاد كالرعد والكسوف ونحوه ، وهنا فكرة الجهلة فقط ، وقسم خارق للعادة ، وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر توهما لما سلف منه . انتهى . وهذا القسم الأخير قال فيه : وقد انقضى بانقضاء النبوة ، وكثير من الناس يثبت هذا القسم لغير الأنبياء ويسميه كرامة .وقال : إن أراد بالآيات المقترحة ، فالمعنى : لا نرسلها ( الزمخشري إلا تخويفا ) من نزول العذاب العاجل كالطليعة ، والمقدمة له ، فإن لم يخافوا وقع عليهم ، وإن أراد غيرها فالمعنى ( وما نرسل ) ما نرسل من الآيات كآيات القرآن وغيرها ( إلا تخويفا ) وإنذارا بعذاب الآخرة . وقيل : الآيات التي جعلها الله تخويفا لعباده سماوية : كسوف الشمس ، وخسوف القمر ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، والرجوم وما يجري مجرى ذلك . وأرضية زلازل ، وخسف ، ومحول [ ص: 54 ] ونيران تظهر في بعض البلاد ، وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى تغرق بعض الأرضين ، ولا سماوية ولا أرضية : الرياح العواصف ، وما يحدث عنها من قلع الأشجار وتدمير الديار ، وما تسوقه من السواقي والرياح السموم .