لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع ، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع [ ص: 60 ] آدم ، وتمكينه من وسوسة ذريته وتسويله ، ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته ، وأنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء ، فذكر إحسانه إليهم بحرا وبرا ، وأنه تعالى متمكن بقدرته مما يريده . وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف ، وذلك من رحمته بعباده ، وابتغاء الفضل طلب التجارة أو الحج فيه أو الغزو . والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح ، ومعنى ( ضل ) ذهب عن أوهامكم من تدعونه إلها فيشفع أو ينفع ، أو ( ضل ) من تعبدونه إلا الله وحده فتفردونه إذ ذاك بالالتجاء إليه والاعتقاد أنه لا يكشف الضر إلا هو ولا يرجون لكشف الضر غيره . ثم ذكر حالهم إذ كشف عنهم من إعراضهم عنه وكفرانهم نعمة إنجائهم من الغرق ، وجاءت صفة ( كفورا ) دلالة على المبالغة ، ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفا بهم وإحالة على الجنس إذ كل أحد لا يكاد يؤدي شكر نعم الله .
وقال : المراد بالإنسان الكفار ، والظاهر أن ( الزجاج إلا إياه ) استثناء منقطع ; لأنه لم يندرج من قوله : ( من تدعون ) إذ المعنى ضلت آلهتهم أي : معبوداتهم وهم لا يعبدون الله . وقيل : هو استثناء متصل وهذا على معنى ضل من يلجئون إليه ، وهم كانوا يلجئون في بعض أمورهم إلى معبوداتهم ، وفي هذه الحالة لا يلجئون إلا إلى الله والهمزة في ( أفأمنتم ) للإنكار . قال : والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم . انتهى . وتقدم لنا الكلام معه في دعواه أن الفاء والواو في مثل هذا التركيب للعطف على محذوف بين الهمزة وحرف العطف ، وأن مذهب الجماعة أن لا محذوف هناك ، وأن الفاء والواو للعطف على ما قبلها وأنه اعتنى بهمزة الاستفهام لكونها لها صدر الكلام فقدمت والنية التأخير ، وأن التقدير فأمنتم . وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة ، والخطاب للسابق ذكرهم أي أفأمنتم أيها الناجون المعرضون عن صنع الله الذي نجاكم ، وانتصب ( الزمخشري جانب ) على المفعول به بنخسف ، كقوله : ( فخسفنا به وبداره الأرض ) والمعنى أن نغيره بكم فتهلكون بذلك . وقال : أن نقلبه وأنتم عليه . وقال الزمخشري الحوفي : ( جانب البر ) منصوب على الظرف ، ولما كان الخسف تغييبا في التراب قال : ( جانب البر ) و ( بكم ) حال أي : نخسف ( جانب البر ) مصحوبا بكم . وقيل : الباء للسبب أي : بسببكم ، ويكون المعنى ( جانب البر ) الذي أنتم فيه ، فيحصل بخسفه إهلاكهم وإلا فلا يلزم من خسف ( جانب البر ) بسببهم إهلاكهم .
قال قتادة : الحاصب الحجارة . وقال : رام يرميكم بحجارة من سجيل ، والمعنى أن قدرته تعالى بالغة ، فإن كان نجاكم من الغرق وكفرتم نعمته فلا تأمنوا إهلاكه إياكم وأنتم في البر ، إما بأمر يكون من تحتكم وهو تغوير الأرض بكم ، أو من فوقكم بإرسال حاصب عليكم ، وهذه الغاية في تمكن القدرة ثم ( السدي لا تجدوا ) عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه فيتوكل في صرف ذلك عنكم . و ( أم ) في ( أم أمنتم ) منقطعة تقدر ببل ، والهمزة أي : بل ( أمنتم ) والضمير في ( فيه ) عائد على البحر ، وانتصب تارة على الظرف أي : وقتا غير الوقت الأول ، والباء في ( بما كفرتم ) سببية وما مصدرية ، أي : بسبب كفركم السابق منكم ، والوقت الأول الذي نجاكم فيه أو بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائما .
والضمير في ( به ) عائد على المصدر الدال عليه فنغرقكم ، إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال . وقيل : عائد على الإرسال ، وقيل : عليهما فيكون كاسم الإشارة ، والمعنى بما وقع من الإرسال والإغراق . والتبيع قال : النصير ، وقال ابن عباس الفراء : طالب الثأر ، وقال أبو عبيدة : المطالب ، وقال : من يتبع بالإنكار ما نزل بكم ، ونظيره قوله تعالى : ( الزجاج فسواها ولا يخاف عقباها ) وفي الحديث : " " . وقال إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع الشماخ :
كما لاذ الغريم من التبيع
ويقال : فلان على فلان تبيع ، أي : مسيطر بحقه مطالب به . وأنشد [ ص: 61 ] ابن عطية :
غدوا وغدت غزلانهم فكأنها ضوامن غرم لرهن تبيع