لما ذكر تعالى ما امتن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق ، تمم ذكر المنة بذكر تكرمتهم ورزقهم وتفضيلهم ، أو لما هددهم بما هدد من الخسف والغرق وأنهم كافرو نعمته ذكر ما أنعم به عليهم ليتذكروا فيشكروا نعمه ، ويقلعوا عن ما كانوا فيه من الكفر ويطيعوه تعالى ، وفي ذكر النعم وتعدادها هز لشكرها . وكرم معدى بالتضعيف من كرم أي : جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة ، كما تقول : ثوب كريم وفرس كريم أي : جامع للمحاسن وليس من كرم المال . وما جاء عن أهل التفسير من تكريمهم وتفضيلهم بأشياء ذكرها هو على سبيل التمثيل لا على الحصر في ذلك كما روي عن أن التفضيل بالعقل وعن ابن عباس الضحاك بالنطق ، وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها ، وعن بالمطاعم واللذات ، وعن يمان بحسن الصورة ، وعن زيد بن أسلم بجعل محمد بن كعب محمد - عليه الصلاة والسلام - منهم ، وعن بالتسليط على غيره من الخلق وتسخيره له . وقيل : بالخط ، وقيل : باللحية للرجل والذؤابة للمرأة . وعن ابن جرير : بأكله بيده وغيره بفمه . وقيل : بتدبير المعاش والمعاد ، وقيل : بخلق الله ابن عباس آدم بيده . قال ابن عطية : وقد ذكر أن من الحيوان ما يفضل بنوع ما ابن آدم كجري الفرس وسمعه وإبصاره ، وقوة الفيل ، وشجاعة الأسد ، وكرم الديك . قال : وإنما التكريم والتفضيل بالعقل الذي يملك به الحيوان كله وبه يعرف الله ، ويفهم كلامه ويوصل إلى نعيمه . انتهى .
( وحملناهم في البر والبحر ) وهذا أيضا من تكريمهم . قال : في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل ، وفي البحر على السفن . وقال غيره : على أكباد رطبة وأعواد يابسة . ( والطيبات ) كما تقدم الحلال أو المستلذ ، ولا يتسع غيره من الحيوان في الرزق اتساعه ; لأنه يكتسب المال ويلبس الثياب ويأكل المركب من الأطعمة بخلاف الحيوان ، فإنه لا يكتسب ولا يلبس ولا يأكل غالبا إلا لحما نيئا وطعاما غير مركب ، والظاهر أن كثيرا باق على حقيقته ، فقالت طائفة : فضلوا على الخلائق كلهم غير ابن عباس جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم وهذا عن . وعنه إن الإنسان ليس أفضل من الملك وهو اختيار ابن عباس . وقال الزجاج ابن عطية : والحيوان والجن هو الكثير المفضول ، والملائكة هم الخارجون عن الكثير المفضول . وقالت فرقة : الآية تقضي بفضل الملائكة على الإنس من حيث هم [ ص: 62 ] المستثنون ، وقد قال تعالى : ( ولا الملائكة المقربون ) وهذا غير لازم من الآية ، بل التفضيل بين الإنس والجن لم تعن له الآية ، بل يحتمل أن الملائكة أفضل ويحتمل التساوي ، وإنما يصح تفضيل الملائكة من مواضع أخر من الشرع . انتهى .
وقال : ( الزمخشري على كثير ممن خلقنا ) هو ما سوى الملائكة عليهم الصلاة والسلام ، وحسب بني آدم ( تفضيلا ) أن ترفع عليهم الملائكة وهم هم ومنزلتهم عند الله منزلتهم ، والعجب من المجبرة كيف عكسوا في كل شيء وكابروا حتى جسرتهم المكابرة على العظيمة التي هي تفضيل الإنسان على الملك ، ثم ذكر تشنيعا أقذع فيه يوقف عليه من كتابه . وقيل : ( وفضلناهم على كثير ) بالغلبة والاستيلاء . وقيل : بالثواب والجزاء يوم القيامة ، وعلى هذين القولين لم تتعرض الآية للتفضيل المختلف فيه بين الإنس والملائكة . وقيل : المراد بكثير مجازه وهو إطلاقه على الجميع ، والعرب تفعل ذلك ، وهو القول لا ينبغي أن يقال هنا ; لأنك لو جعلت جميعا كان بكثير ، فقلت : على جميع ممن خلقنا لكان نائيا عن الفصاحة ، ولا يليق أن يحمل كلام الله تعالى الذي هو أفصح الكلام عليه ، ولأبي عبد الله الرازي كلام في تكريم ابن آدم وتفضيله مستمد من كلام الذين يسمونهم حكماء يوقف عليه في تفسيره ، إذ هو جار على غير طريقة العرب في كلامها .
ولما ذكر تعالى أنواعا من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئا من أحوال الآخرة فقال : ( يوم ندعو كل أناس بإمامهم ) واختلفوا في العامل في ( يوم ) . فقيل : العامل فيه ما دل عليه قوله متى هو . وقيل : فتستجيبون . وقيل : هو بدل من يوم يدعوكم ، وهذه أقوال في غاية الضعف ، ولولا أنهم ذكروها لضربت عن ذكرها صفحا وهو في هذه الأقوال ظرف . وقال الحوفي وابن عطية : انتصب على الظرف ، والعامل فيه اذكر وعلى تقدير اذكر لا يكون ظرفا بل هو مفعول . وقال ابن عطية أيضا بعد قوله هو ظرف : والعامل فيه اذكر أو فعل يدل عليه قوله : ( ولا يظلمون ) وحكاه أبو البقاء وقدره ( ولا يظلمون ) يوم ندعو . وقال ابن عطية أيضا : ويصح أن يعمل فيه ( وفضلناهم ) وذلك أن فضل البشر يوم القيامة على سائر الحيوان بين ; لأنهم المنعمون المكلفون المحاسبون الذين لهم القدر إلا أن هذا يرده أن الكفار يومئذ أخسر من كل حيوان ، إذ يقول الكافر : يا ليتني كنت ترابا . وقال ابن عطية أيضا : ويصح أن يكون ( يوم ) منصوبا على البناء لما أضيف إلى غير متمكن ، ويكون موضعه رفعا بالابتداء ، والخبر في التقسيم الذي أتى بعد في قوله : ( فمن أوتي كتابه ) إلى قوله : ( ومن كان ) . انتهى . وقوله منصوبا على البناء كان ينبغي أن يقول : مبنيا على الفتح ، وقوله : لما أضيف إلى غير متمكن ليس بجيد ; لأن الذي ينقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل ، وهذا أضيف إلى فعل مضارع ، ومذهب البصريين أنه إذا أضيف إلى فعل مضارع معرب لا يجوز بناؤه ، وهذا الوجه الذي ذكره هو على رأي الكوفيين . وأما قوله : والخبر في التقسيم عار من رابط لهذه الجملة التقسيمية بالمبتدأ إلا إن قدر محذوفا ، فقد يمكن أي : ممن ( أوتي كتابه ) فيه ( بيمينه ) وهو بعد ذلك التخريج تخريج متكلف .
وقال بعض النحاة : العامل فيه ( وفضلناهم ) على تقدير ( وفضلناهم ) بالثواب ، وهذا القول قريب من قول ابن عطية الذي ذكرناه عنه قبل . وقال : هو ظرف لقوله : ثم لا تجد . وقال الزجاج الفراء : هو معمول لقوله : نعيدكم مضمرة أي : نعيدكم ( يوم ندعوا ) والأقرب من هذه الأقوال أن يكون منصوبا على المفعول به باذكر مضمرة . وقرأ الجمهور : ( ندعو ) بنون العظمة ، ومجاهد يدعو بياء الغيبة أي : يدعو الله ، والحسن فيما ذكر يدعى مبنيا للمفعول ( كل ) مرفوع به ، وفيما ذكر غيره يدعو بالواو وخرج على إبدال الألف واوا على لغة من [ ص: 63 ] يقول : أفعو في الوقف على أفعى ، وإجراء الوصل مجرى الوقف وكل مرفوع به ، وعلى أن تكون الواو ضميرا مفعولا لم يسم فاعله ، وأصله يدعون فحذفت النون كما حذفت في قوله : أبو عمرو الداني
أبيت أسري وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الزكي
أي : تبيتين تدلكين ، وكل بدل من واو الضمير . و ( أناس ) اسم جمع لا واحد له من لفظه ، والباء في ( بإمامهم ) الظاهر أنها تتعلق بندعو ، أي : باسم إمامهم . وقيل : هي باء الحال أي : مصحوبين ( بإمامهم ) . والإمام هنا قال ابن عباس والحسن وأبو العالية والربيع : كتابهم الذي فيه أعمالهم . وقال الضحاك وابن زيد : كتابهم الذي نزل عليهم . وقال مجاهد وقتادة : نبيهم . قال ابن عطية : والإمام يعم هذا كله ; لأنه مما يؤتم به . وقال : إمامهم من ائتموا به نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين ، فيقال : يا أهل دين كذا وكتاب كذا . وقيل : بكتاب أعمالهم يا أصحاب كتاب الخير ويا أصحاب كتاب الشر . وفي قراءة الحسن بكتابهم ومن بدع التفسير أن الإمام جمع أم وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم ، وأن الحكمة في الدعاء بالأمهات دون الآباء رعاية حق الزمخشري عيسى وشرف الحسن والحسين ، وأن لا يفتضح أولاد الزنا وليت شعري أيهما أبدع أصحة لفظه أم بهاء حكمته . انتهى . وإيتاء الكتاب دليل على ما تقرر في الشريعة من الصحف التي يؤتاها المؤمن والكافر ، وإيتاؤه باليمين دليل على نجاة الطائع وخلاص الفاسق من النار إن دخلها وبشارته أنه لا يخلد فيها ( فأولئك ) جاء جمعا على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولا فأفرد في قوله : ( أوتي كتابه بيمينه ) وقراءتهم كتبهم هو على سبيل التلذذ بالاطلاع على ما تضمنتها من البشارة ، وإلا فقد علموا من حيث إيتاؤهم إياها باليمين أنهم من أهل السعادة ، ومن فرحهم بذلك يقول الباري لأهل المحشر : ( هاؤم اقرءوا كتابيه ) ولم يأت هنا قسيم من ( أوتي كتابه بيمينه ) وهو من يؤتى كتابه بشماله ، وإن كان قد أتى في غير هذه الآية بل جاء قسيمه قوله .
( ومن كان في هذه أعمى ) وذلك من حيث المعنى مقابله ; لأن من ( أوتي كتابه بيمينه ) هم أهل السعادة ( ومن كان في هذه أعمى ) هم أهل الشقاوة ( ولا يظلمون فتيلا ) أي : لا ينقصون أدنى شيء ، وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء . والظاهر أن الإشارة بقوله : ( في هذه ) إلى الدنيا ، وقاله ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد أي : من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه ، فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي : في شأن الآخرة ، وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى ، معنى أنه خبران لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح . وقال مجاهد : هو أعمى في الآخرة عن حججه . وقال أيضا : ( ابن عباس ومن كان في هذه ) النعم يشير إلى نعم التكريم والتفضيل فهو في الآخرة التي لم تر ولم تعاين ( أعمى ) . وقيل : ومن كان في الدنيا ضالا كافرا فهو في الآخرة أعمى ( وأضل سبيلا ) لأنه في الدنيا تقبل توبته وفي الآخرة لا تقبل ، وفي الدنيا يهتدي إلى التخلص من الآفات ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى ذلك ألبتة . وقيل : فهو في الآخرة أعمى عن طريق الجنة . وقيل : أعمى البصر كما قال : ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا ) وقوله : ( ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ) . وقيل : من كان في الدنيا أعمى عن إبصار الحق والاعتبار فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .
وقال ابن عطية : والظاهر عندي أن الإشارة بهذه إلى الدنيا أي من كان في دنياه هذه وقت إدراكه وفهمه أعمى عن النظر في آيات الله فهو في يوم القيامة أشد حيرة وعمى ; لأنه قد باشر الخيبة ورأى مخائل العذاب ، وبهذا التأويل تكون معادلة التي قبلها من ذكر من يؤتى كتابه بيمينه . وإذا جعلنا قوله : ( في الآخرة ) بمعنى في شأن الآخرة لم تطرد المعادلة بين الآيتين . وقال : [ ص: 64 ] والأعمى مستعار ممن لا يدرك المبصرات لفساد حاسته لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة ، أما في الدنيا فلفقد النظر ، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه ، وقد جوزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل . ومن ثم قرأ الزمخشري أبو عمر ، والأول ممالا والثاني مفخما ; لأن أفعل التفضيل تمامه بمن فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام كقوله : ( أعمالكم ) وأما الأول فلم يتعلق به شيء فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة . انتهى . وتعليله ترك إمالة أعمى الثاني أخذه من الزمخشري أبي علي ، قال أبو علي : لأن الإمالة إنما تحسن في الأواخر ، و ( أعمى ) ليس كذلك ; لأن تقديره ( أعمى ) من كذا فليس يتم إلا في قولنا من كذا فهو إذن ليس بآخر ، ويقوي هذا التأويل عطف ( وأضل سبيلا ) لأن الإنسان في الدنيا يمكن أن يؤمن فينجو وهو في الآخرة لا يمكنه ذلك فهو ( أضل سبيلا ) وأشد حيرة وأقرب إلى العذاب ، و ( أعمى ) هنا من عمى القلب لا من عمى البصر ; لأن ذلك يقع فيه التفاضل لا هذا .