قال كفار قريش : لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، يعنون عمارا وصهيبا وسلمان وابن مسعود وبلالا ونحوهم من الفقراء ، وقالوا : إن ريح جيابهم تؤذينا ، فنزلت ( واصبر نفسك ) الآية . وعن سلمان أن قائل ذلك عيينة بن حصن والأقرع وذووهم من المؤلفة فنزلت ، فالآية على هذا مدنية والأول أصح ; لأن السورة مكية ، وفعل المؤلفة فعل قريش فرد بالآية عليهم ( واصبر نفسك ) أي : احبسها وثبتها . قال أبو ذؤيب :
فصبرت عارفة لذلك حرة ترسو إذا نفس الجبان تطلع
وفي الحديث النهي عن صبر الحيوان ، أي : حبسه للرمي ، و ( مع ) تقتضي الصحبة والموافقة والأمر بالصبر هنا يظهر منه كبير اعتناء بهؤلاء الذين أمر أن يصبر نفسه معهم ، وهي أبلغ من التي في الأنعام ( ولا تطرد الذين يدعون ) الآية . وقال ابن عمر ومجاهد وإبراهيم : ( بالغداة والعشي ) إشارة إلى الصلوات الخمس ، وقال قتادة : إلى صلاة الفجر وصلاة العصر ، وقد يقال : إن ذلك يراد به العموم أي يدعون ربهم [ ص: 119 ] دائما ، ويكون مثل : ضرب زيد الظهر والبطن يريد جميع بدنه لا خصوص المدلول بالوضع ، وتقدم الكلام على قوله : ( بالغداة والعشي ) قراءة وإعرابا في الأنعام .
( ولا تعد ) أي : لا تصرف ( عيناك ) النظر عنهم إلى أبناء الدنيا ، وعدا متعد تقول : عدا فلان طوره وجاء القوم عدا زيدا ، فلذلك قدرنا المفعول محذوفا ليبقى الفعل على أصله من التعدية . وقال : وإنما عدي بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك : نبت عنه عينه ، وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به . فإن قلت : أي غرض في هذا التضمين ؟ وهلا قيل ولا تعدهم عيناك أو ( الزمخشري ولا تعد عيناك عنهم ) . قلت : الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين ، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ، ونحو قوله : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) أي : ولا تضموها إليها آكلين لها . انتهى . وما ذكره من التضمين لا ينقاس عند البصريين ، وإنما يذهب إليه عند الضرورة ، أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوضعي فإنه يكون أولى . وقرأ الحسن : ( ولا تعد ) من أعدى ، وعنه أيضا ، وعن عيسى ( والأعمش ولا تعد ) . قال : نقلا بالهمزة وبنقل الحشو ، ومنه قوله : الزمخشري
فعد عما ترى إذ لا ارتجاع له
لأن معناه فعد همك عما ترى . انتهى . وكذا قال صاحب اللوامح ، قال : وهذا مما عديته بالتضعيف كما كان في الأولى بالهمز ، وما ذهبا إليه ليس بجيد بل الهمزة والتكثير في هذه الكلمة ليسا للتعدية ، وإنما ذلك لموافقة أفعل وفعل للفعل المجرد ، وإنما قلنا ذلك ; لأنه إذا كان مجردا متعد ، وقد أقر بذلك ، فإنه قال : يقال عداه إذا جاوزه ، ثم قال : وإنما عدي بعن للتضمين والمستعمل في التضمين هو مجاز ، ولا يتسعون فيه إذا ضمنوه فيعدونه بالهمزة أو التضعيف ، ولو عدي بهما وهو متعد لتعدى إلى اثنين وهو في هذه القراءة ناصب مفعولا واحدا ، فدل على أنه ليس معدى بهما . الزمخشري
وقال : ( الزمخشري تريد زينة الحياة الدنيا ) في موضع الحال . انتهى . وقال صاحب الحال : إن قدر ( عيناك ) فكان يكون التركيب تريدان ، وإن قدر الكاف فمجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيها إشكال ; لاختلاف العامل في الحال وذي الحال ، وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف جزء أو كالجزء ، وحسن ذلك هنا أن المقصود نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن الإعراض عنهم والميل إلى غيرهم ، وإنما جيء بقوله : ( عيناك ) والمقصود هو ; لأنهما بهما تكون المراعاة للشخص والتلفت له ، والمعنى ( ولا تعد ) أنت ( عنهم ) النظر إلى غيرهم .
وقال : ( الزمخشري من أغفلنا قلبه ) من جعلنا قلبه غافلا عن الذكر بالخذلان أو وجدناه غافلا عنه ، كقولك : أجبنته وأفحمته وأبخلته إذا وجدته كذلك ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي : لم نسمه بالذكر ، ولم نجعلهم من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، وقد أبطل الله توهم المجبرة [ ص: 120 ] بقوله : ( واتبع هواه ) . انتهى . وهذا على مذهب المعتزلة ، والتأويل الآخر تأويل الرماني وكان معتزليا قال : لم نسمه بما نسم به قلوب المؤمنين بما يبين به فلاحهم كما قال : كتب في قلوبهم الإيمان من قولهم بعير غفل لم يكن عليه سمة ، وكتاب غفل لم يكن عليه إعجام ، وأما أهل السنة فيقولون : إن الله تعالى أغفله حقيقة وهو خالق الضلال فيه والغفلة . وقال المفضل : أخليناه عن الذكر وهو القرآن . وقال : شغلنا قلبه بالكفر وغلبة الشقاء ، والظاهر أن المراد بـ ( ابن جريج من أغفلنا ) كفار قريش . وقيل : عيينة والأقرع ، والأول أولى ; لأن الآية مكية .
وقرأ عمر بن فائد وموسى الأسواري ( وعمرو بن عبيد أغفلنا ) بفتح اللام ( قلبه ) بضم الباء أسند الأفعال إلى القلب . قال : من ظننا غافلين عنه ، وقال ابن جني : حسبنا قلبه غافلين من أغفلته إذا وجدته غافلا . انتهى . ( الزمخشري واتبع هواه ) في طلب الشهوات ( وكان أمره فرطا ) . قال قتادة ومجاهد : ضياعا ، وقال : سرفا ، وقال مقاتل بن حيان الفراء : متروكا ، وقال الأخفش : مجاوزا للحد ، قيل : وهو قول عتبة إن أسلمنا أسلم الناس ، وقال ابن بحر : الفرط العاجل السريع ، كما قال : ( وكان الإنسان عجولا ) . وقيل : ندما ، وقيل : باطلا . وقال ابن زيد : مخالفا للحق ، وقال ابن عطية : الفرط يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي : أمره الذي يجب أن يلزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف أي أمره وهواه الذي هو بسبيله . انتهى .
و ( الحق ) يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فقدره ابن عطية هذا ( الحق ) أي : هذا القرآن أو هذا الإعراض عنكم وترك الطاعة لكم وصبر النفس مع المؤمنين . وقال : ( الحق ) خبر مبتدأ محذوف ، والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختياركم لأنفسكم ما شئتم من الأخذ في طريق النجاة أو في طريق الهلاك ، وجيء بلفظ الأمر والتخيير ; لأنه لما مكن من اختيار أيهما شاء ، فكأنه مخير مأمور بأن يتخير ما شاء من النجدين . انتهى ، وهو على طريق المعتزلة ، ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ( الزمخشري من ربكم ) . قال الضحاك : هو التوحيد ، وقال مقاتل : هو القرآن ، وقال : أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ليس إلي من ذلك شيء . وقال مكي الكرماني : أي : الإسلام والقرآن ، وهذا الذي لفظه لفظ الأمر معناه التهديد والوعيد ، ولذلك عقبه بقوله : ( إنا أعتدنا للظالمين ) قال معناه . وقال ابن عباس : هو منسوخ بقوله : ( السدي وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) وهذا قول ضعيف ، والظاهر أن الفاعل بشاء عائد على ( من ) .
وعن من شاء الله له بالإيمان آمن ، ومن لا فلا . انتهى . وحكى ابن عباس ابن عطية عن فرقة أن الضمير في ( شاء ) عائد على الله تعالى ، وكأنه لما كان الإيمان والكفر تابعين لمشيئة الله جاء بصيغة الأمر حتى كأنه تحتم وقوعه مأمور به مطلوب منه . وقرأ أبو السمال قعنب وقل الحق بفتح اللام حيث وقع . قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية . انتهى . وعنه أيضا ضم اللام حيث وقع كأنه إتباع لحركة القاف . وقرأ أيضا ( الحق ) بالنصب . قال صاحب اللوامح : هو على صفة المصدر المقدر ; لأن الفعل يدل على مصدره وإن لم يذكر فينصبه معرفة كنصبه إياه نكرة ، وتقديره ( وقل ) القول ( الحق ) وتعلق ( من ) بمضمر على ذلك مثل هو إرجاء والله أعلم . وقرأ الحسن بكسر لامي الأمر . وعيسى الثقفي
ولما تقدم الإيمان والكفر أعقب بما أعد لهما ، فذكر ما أعد للكافرين يلي قوله : ( فليكفر ) وأتى بعد ذلك بما أعد للمؤمنين ، ولما كان الكلام مع الكفار وفي سياق ما طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت البداءة بما أعد لهم أهم وآكد ، وهما طريقان للعرب هذه الطريق والأخرى أنه يجعل الأول في التقسيم للأول في الذكر ، والثاني للثاني . والسرادق قال : حائط من نار محيط [ ص: 121 ] بهم . وحكى أقضى القضاة ابن عباس الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا . وحكى الكلبي : أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار . وقيل : دخان ( وإن يستغيثوا ) يطلبوا الغوث مما حل بهم من النار وشدة إحراقها واشتداد عطشهم ( يغاثوا ) على سبيل المقابلة وإلا فليست إغاثة . وروي في الحديث أنه عكر الزيت إذا قرب منه سقطت فروة وجهه فيه . وقال : ماء غليظ مثل دردي الزيت . وعن ابن عباس مجاهد أنه القيح والدم الأسود ، وعن ابن جبير : كل شيء ذائب قد انتهى حره . وذكر أنه الصديد ، وعن ابن الأنباري الحسن أنه الرماد الذي ينفط إذا خرج من التنور . وقيل : ضرب من القطران .
و ( يشوي ) في موضع الصفة لماء أو في موضع الحال منه ; لأنه قد وصف فحسن مجيء الحال منه ، وإنما اختص ( الوجوه ) لكونها عند شربهم يقرب حرها من وجوههم . وقيل : عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم ، والمعنى أنه ينضج به جميع جلودهم ، كقوله : ( كلما نضجت جلودهم ) والمخصوص بالذم محذوف تقديره ( بئس الشراب ) هو أي : الماء الذي يغاثون به . والضمير في ( ساءت ) عائد على النار . والمرتفق قال : المنزل ، وقال ابن عباس عطاء : المقر ، وقال القتبي : المجلس ، وقال مجاهد : المجتمع ، وأنكر أن يعرف لقول مجاهد معنى ، وليس كذلك كان الطبري مجاهد ذهب إلى معنى الرفاقة ومنه الرفقة . وقال أبو عبيدة : المتكأ ، وقال : المتكأ على المرفق ، وأخذه الزجاج فقال : متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله ( الزمخشري وحسنت مرتفقا ) وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء . وقال : ساءت مطلبا للرفق ; لأن من طلب رفقا من جهنم عدمه . وقال ابن الأنباري ابن عطية : قريبا من قول ، قال : والأظهر عندي أن يكون المرتفق بمعنى الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره . وقال ابن الأنباري أبو عبد الله الرازي : والمعنى بئس الرفقاء هؤلاء ، وبئس موضع الترافق النار .