لما ذكر تعالى حال أهل الكفر ، وما أعد لهم في النار ذكر حال أهل الإيمان وما أعد لهم في الجنة ، وخبر ( إن ) يحتمل أن تكون الجملة من قوله : أولئك لهم . وقوله ( إنا لا نضيع ) الجملة اعتراض . قال ابن عطية : ونحو هذا من الاعتراض قول الشاعر :
إن الخليفة إن الله ألبسه سربال ملك به ترجى الخواتيم
انتهى ، ولا يتعين في قوله : إن الله ألبسه أن يكون اعتراضا هي اسم إن وخبرها ، الذي هو ترجى الخواتيم ، يجوز أن يكون إن الله ألبسه هو الخبر ، ويحتمل أن يكون الخبر قوله : ( إنا لا نضيع أجر ) والعائد محذوف تقديره ( من أحسن عملا ) منهم ، أو هو قوله : ( من أحسن عملا ) على مذهب الأخفش في ربطه الجملة بالاسم إذا كان هو المبتدأ في المعنى ، لأن ( من أحسن عملا ) هم ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) [ ص: 122 ] فكأنه قال : إنا لا نضيع أجرهم ، ويحتمل أن تكون الجملتان خبرين ; لأن على مذهب من يقتضي المبتدأ خبرين فصاعدا من غير شرط أن يكونا ، أو يكن في معنى خبر واحد .
وإذا كان خبر ( إن ) قوله : ( إنا لا نضيع ) كان قوله : ( أولئك ) استئناف إخبار موضح لما انبهم في قوله : ( إنا لا نضيع ) من مبهم الجزاء . وقرأ عيسى الثقفي ( لا نضيع ) من ضيع عداه بالتضعيف ، والجمهور من أضاع عدوه بالهمزة ، ولما ذكر مكان أهل الكفر وهو النار ، ذكر مكان أهل الإيمان وهي ( جنات عدن ) ولما ذكر هناك ما يغاثون به وهو الماء كالمهل ذكر هنا ما خص به أهل الجنة من كون الأنهار تجري من تحتهم ، ثم ذكر ما أنعم عليهم من التحلية واللباس اللذين هما زينة ظاهرة . وقال : يحلى كل واحد ثلاثة أساور سوار من ذهب ، وسوار من فضة ، وسوار من لؤلؤ ويواقيت . سعيد بن جبير
وقال : و ( من ) الأول للابتداء والثانية للتبيين ، وتنكير ( أساور ) لإبهام أمرها في الحسن . انتهى . ويحتمل أن تكون ( من ) في قوله : ( الزمخشري من ذهب ) للتبعيض لا للتبيين . وقرأ أبان عن عاصم من أسورة من غير ألف وبزيادة هاء وهو جمع سوار . وقرأ أيضا أبان عن عاصم وابن أبي حماد عن أبي بكر : ( ويلبسون ) بكسر الباء . وقرأ ابن محيصن ( واستبرق ) بوصل الألف وفتح القاف حيث وقع جعله فعلا ماضيا على وزن استفعل من البريق ، ويكون استفعل فيه موافقا للمجرد الذي هو برق ، كما تقول : قر واستقر بفتح القاف ذكره الأهوازي في الإقناع عن ابن محيصن . قال ابن محيصن وحده : ( واستبرق ) بالوصل ، وفتح القاف حيث كان لا يصرفه . انتهى . فظاهره أنه ليس فعلا ماضيا بل هو اسم ممنوع الصرف . وقال ابن خالويه : جعله استفعل من البريق ابن محيصن ، فظاهره أنه فعل ماض ، وخالفهما صاحب اللوامح . قال ابن محيصن : ( واستبرق ) بوصل الهمزة في جميع القرآن فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفا على غير قياس ، ويجوز أنه جعله عربيا من برق يبرق بريقا ، وذلك إذا تلألأ الثوب لجدته ونضارته ، فيكون وزنه استفعل من ذلك ، فلما تسمى به عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة ، ومعاملة المتمكنة من الأسماء في الصرف والتنوين ، وأكثر التفاسير على أنه عربي وليس بمستعرب دخل في كلامهم فأعربوه . انتهى .
ويمكن أن يكون القولان روايتين عنه فتح القاف وصرفه التنوين ، وذكر قراءة فتح القاف ، وقال : هذا سهو أو كالسهو . انتهى . وإنما قال ذلك ; لأن جعله اسما ، ومنعه من الصرف لا يجوز ; لأنه غير علم ، وقد أمكن جعله فعلا ماضيا فلا تكون هذه القراءة سهوا . قال أبو الفتح بن جني : وجمع السندس ، وهو ما رق من الديباج ، وبين الإستبرق وهو الغليظ منه جمعا بين النوعين ، وقدمت التحلية على اللباس ; لأن الحلي في النفس أعظم وإلى القلب أحب ، وفي القيمة أغلى ، وفي العين أحلى ، وبناء فعله للمفعول الذي لم يسم فاعله إشعارا بأنهم يكرمون بذلك ، ولا يتعاطون ذلك بأنفسهم ، كما قال الشاعر : الزمخشري
غرائر في كن وصون ونعمة يحلين ياقوتا وشذرا مفقرا
وأسند اللباس إليهم ; لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا لو كان بادي العورة ، ووصف الثياب بالخضرة ; لأنها أحسن الألوان ، والنفس تنبسط لها أكثر من غيرها ، وقد روي في ذلك أثر إنها تزيد في ضوء البصر ، وقال بعض الأدباء :
أربعة مذهبة لكل هم وحزن الماء والخضرة والبستان والوجه الحسن
وخص الاتكاء ; لأنها هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم . وقرأ ابن محيصن : ( على الأرائك ) بنقل الهمزة إلى لام التعريف وإدغام لام على ( فيها ) فتنحذف ألف ( على ) لتوهم سكون لام التعريف ، والنطق [ ص: 123 ] به علرائك ، ومثله قول الشاعر :
فما أصبحت علرض نفس برية ولا غيرها إلا سليمان بالها
يريد على الأرض ، والمخصوص بالمدح محذوف أي : نعم الثواب ما وعدوا به ، والضمير في ( حسنت ) عائد على الجنات .