( فانطلقا ) ، أي : موسى والخضر وكان معهم يوشع ولم يضمر لأنه في حكم التبع . وقيل : كان موسى قد صرفه ورده إلى بني إسرائيل . والألف واللام في ( السفينة ) لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة . وروي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال ، والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما قالا : " الخضر فحملوه بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها ( لتغرق أهلها ) إلى قوله ( عسرا ) " قال : وقال رسول الله : " وكان الأول من موسى نسيانا قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر : ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر " . فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا
واللام في ( لتغرق أهلها ) . قيل : لام العاقبة . وقيل : لام العلة . وقرأ زيد بن علي والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وحمزة والكسائي وخلف وأبو عبيد وابن سعدان وابن عيسى الأصبهاني ( ليغرق ) بفتح الياء والراء وسكون الغين ( أهلها ) بالرفع . وقرأ باقي السبعة بضم تاء الخطاب وإسكان الغين وكسر الراء ونصب لام ( أهلها ) . وقرأ الحسن وأبو رجاء كذلك إلا أنهما فتحا الغين وشددا الراء .
ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى فقال ( لا تؤاخذني بما نسيت ) [ ص: 150 ] والظاهر حمل النسيان على وضعه . وقد قال عليه السلام : " كانت الأولى من موسى نسيانا " والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولا وهذا قول الجمهور . وعن أنه ما نسي ولكن قوله هذا من معاريض الكلام . قال أبي بن كعب : أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي ، أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان ، توهمه أنه نسي ليبسط عذره في الإنكار ، وهو من معاريض الكلام التي ينفى بها الكذب مع التوصل إلى الغرض ، كقول الزمخشري إبراهيم عليه السلام : هذه أختي وإني سقيم . أو أراد بالنسيان الترك ، أي : ( لا تؤاخذني ) بما تركت من وصيتك أول مرة انتهى .
وقد بين ابن عطية كلام أبي بكلام طويل يوقف عليه في كتابه ، ولا يعتمد إلا قول الرسول : " كانت الأولى من موسى نسيانا " .
( ولا ترهقني ) لا تغشني وتكلفني ( من أمري ) وهو اتباعك ( عسرا ) ، أي : شيئا صعبا ، بل سهل علي في متابعتك بترك المناقشة . وقرأ أبو جعفر ( عسرا ) بضم السين حيث وقع فانطلقا في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها ، فانطلقا فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر ( غلاما ) يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه . وقيل : رضه بحجر . وقيل : ذبحه . وقيل : فتل عنقه . وقيل : ضرب برأسه الحائط . قيل : وكان هذا الغلام لم يبلغ الحلم ولهذا قال : ( أقتلت نفسا زكية ) . وقيل : كان الغلام بالغا شابا ، والعرب تبقي على الشاب اسم الغلام . ومنه قول ليلى الأخيلية في الحجاج :
شفاها من الداء الذي قد أصابها غلام إذا هز القناة سقاها
وقال آخر :
تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وقيل : أصله من الاغتلام وهو شدة الشبق ، وذلك إنما يكون في الشباب الذين قد بلغوا الحلم ويتناول الصبي الصغير تجوزا تسمية للشيء باسم ما يئول إليه . ( واختلف في اسم هذا الغلام واسم أبيه واسم أمه ) ولم يرد شيء من ذلك في الحديث . وفي الخبر أن هذا الغلام كان يفسد ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه .
وحكى القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى - عليه السلام - لما قال للخضر ( أقتلت نفسا زكية ) غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه ، وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبدا .
وقال : فإن قلت : لم قيل ( خرقها ) بغير فاء و ( فقتله ) بالفاء ؟ قلت : جعل ( خرقها ) جزاء للشرط ، وجعل ( قتله ) من جملة الشرط معطوفا عليه ، والجزاء قال أقتلت . فإن قلت : فلم خولف بينهما ؟ قلت : لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام انتهى . الزمخشري
ومعنى ( زكية ) طاهرة من الذنوب ، ووصفها بهذا الوصف ؛ لأنه لم يرها أذنبت ، قيل أو لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث . وقوله ( بغير نفس ) يرده ويدل على كبر الغلام وإلا فلو كان لم يحتلم لم يجب قتله بنفس ولا بغير نفس . وقرأ ابن عباس والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن محيصن وحميد والزهري ونافع واليزيدي وابن مسلم وزيد وابن بكير عن يعقوب والتمار عن رويس عنه ، وأبو عبيد وابن جبير الأنطاكي وابن كثير وأبو عمرو ( زاكية ) بالألف . وقرأ زيد بن علي والحسن والجحدري وابن عامر والكوفيون ( زكية ) بغير ألف وبتشديد الياء وهي أبلغ من ( زاكية ) لأن فعيلا المحول من فاعل يدل على المبالغة .
وقرأ الجمهور ( نكرا ) بإسكان الكاف . وقرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان وأبو جعفر وشيبة وطلحة ويعقوب وأبو حاتم برفع الكاف حيث كان منصوبا . والنكر قيل : أقل من الإمر ؛ لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة . وقيل : [ ص: 151 ] معناه : شيئا أنكر من الأول ، لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه . وفي قوله ( لك ) زجر وإغلاظ ليس في الأول ؛ لأن موقعه التساؤل بأنه بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفة لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان .