( فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ) .
( فأتت به ) قيل إتيانها كان من ذاتها . قيل : طهرت من النفاس بعد أربعين يوما وكان الله تعالى قد أراها آيات واضحات ، وكلمها عيسى ابنا وحنت إلى الوطن وعلمت أن عيسى سيكفيها من يكلمها فعادت إلى قومها . وقيل : أرسلوا إليها لتحضري إلينا بولدك ، وكان الشيطان قد أخبر قومها بولادتها ، وفي الكلام حذف ، أي : فلما رأوها وابنها ( قالوا ) قال مجاهد والسدي : الفري العظيم الشنيع . وقرأ أبو حيوة فيما نقل ابن عطية ( فريا ) بسكون الراء ، وفيما نقل ابن خالويه فرئا بالهمز ، وهارون شقيقها أو أخوها من أمها ، وكان من أمثل بني إسرائيل ، أو هارون أخو موسى إذ كانت من نسله ، أو رجل صالح من بني إسرائيل شبهت به ، أو رجل من النساء وشبهوها به ، أقوال . والأولى أنه أخوها الأقرب . وفي حديث المغيرة حين خصمه نصارى نجران في قوله تعالى ( ياأخت هارون ) والمدة بينهما طويلة جدا فقال له الرسول : " " . وأنكروا عليها ما جاءت به وأن أبويها كانا صالحين ، فكيف صدرت منك هذه الفعلة القبيحة ، وفي هذا دليل على أن الفروع غالبا تكون زاكية إذا زكت الأصول ، وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك . ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم
وقرأ عمر بن لجأ التيمي الشاعر الذي كان يهاجي جريرا ( ما كان أباك امرؤ سوء ) فجعل الخبر [ ص: 187 ] المعرفة والاسم النكرة ، وحسن ذلك قليلا كونها فيها مسوغ جواز الابتداء وهو الإضافة ، ولما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء لمناسبة الولادة ، ولم ينصوا على إثبات الصلاح وإن كان نفي السوء يوجب الصلاح ، ونفي البغاء يوجب العفة ؛ لأنهما بالنسبة إليهما نقيضان . روي أنها لما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك . وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى فتركوها .
( فأشارت إليه ) ، أي : هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه . وقيل : كان المستنطق لعيسى زكريا . ويروى أنهم لما أشاروا إلى الطفل قالوا : استخفافها بنا أشد علينا من زناها ، ثم قالوا لها على جهة الإنكار والتهكم بها ، أي : إن من كان في المهد يربى لا يكلم ، وإنما أشارت إليه لما تقدم لها من وعده أنه يجيبهم عنها ويغنيها عن الكلام . وقيل : بوحي من الله إليها . و ( كان ) قال أبو عبيدة : زائدة . وقيل : تامة وينتصب ( صبيا ) على الحال في هذين القولين ، والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مضمون الجملة بالزمان الماضي ، ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله ( وكان الله غفورا رحيما ) وفي قوله ( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ) والمعنى ( كان ) وهو الآن على ما كان ، ولذلك عبر بعض أصحابنا عن ( كان ) هذه بأنها ترادف لم يزل وما رد به كونها زائدة من أن الزائدة لا خبر لها ، وهذه نصبت ( صبيا ) خبرا لها ليس بشيء ، لأنه إذ ذاك ينتصب على الحال ، والعامل فيها الاستقرار . ابن الأنباري
وقال : كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده وهو هاهنا لقريبه خاصة والدال عليه معنى الكلام ، وأنه مسوق للتعجب ، ووجه آخر أن يكون ( الزمخشري نكلم ) حكاية حال ماضية ، أي : كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس ( صبيا ) .
( في المهد صبيا ) فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا انتهى . والظاهر أن ( من ) مفعول بنكلم . ونقل عن الفراء أن ( من ) شرطية و ( كان ) في معنى يكن وجواب الشرط محذوف تقديره فكيف ( نكلم ) وهو قول بعيد جدا . وعن والزجاج قتادة أن ( المهد ) حجر أمه . وقيل : سريره . وقيل : المكان الذي يستقر عليه . وروي أنه قام متكئا على يساره وأشار إليهم بسبابته اليمنى ، وأنطقه الله تعالى أولا بقوله ( إني عبد الله آتاني الكتاب ) ردا للوهم الذي ذهبت إليه النصارى .
وفي قوله ( عبدا لله ) والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمه مما اتهمت به لأنه تعالى لا يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلا مبرأة مصطفاة و ( الكتاب ) الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما ، أقوال . وظاهر قوله ( وجعلني نبيا ) أنه تعالى نبأه حال طفوليته أكمل الله عقله واستنبأه طفلا . وقيل : إن ذلك سبق في قضائه وسابق حكمه ، ويحتمل أن يجعل الآتي لتحققه كأنه قد وجد ( وجعلني مباركا ) قال مجاهد : نفاعا . وقال سفيان : معلم خير . وقيل : آمرا بمعروف ، ناهيا عن منكر . وعن الضحاك : قضاء للحوائج و ( أين ما كنت ) شرط وجزاؤه محذوف تقديره ( وجعلني مباركا ) وحذف لدلالة ما تقدم عليه ، ولا يجوز أن يكون معمولا لجعلني السابق ؛ لأن ( أين ) لا يكون إلا استفهاما أو شرطا لا جائز أن يكون هنا استفهاما ، فتعينت الشرطية ، واسم الشرط لا ينصبه فعل قبله إنما هو معمول للفعل الذي يليه ، والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في البدن والمال . وقيل : ( الزكاة ) زكاة الرءوس في الفطر . وقيل الصلاة الدعاء ، و ( الزكاة ) التطهر .