وقبل [ ص: 273 ] قال ياهارون ) كلام محذوف تقديره فرجع قوله ( موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل ( قال ياهارون ) وكان ظهور العجل في سادس وثلاثين يوما وعبدوه وجاءهم موسى بعد استكمال الأربعين ، فعتب موسى على عدم اتباعه لما رآهم قد ضلوا و ( لا ) زائدة كهي في قوله ( ما منعك ألا تسجد ) . وقال علي بن عيسى دخلت ( لا ) هنا لأن المعنى ما دعاك إلى أن لا تتبعني ، وما حملك على أن لا تتبعني بمن معك من المؤمنين ( أفعصيت أمري ) يريد قوله ( اخلفني ) الآية .
وقال : ما منعك أن تتبعني في الغضب لله وشدة الزجر على الكفر والمعاصي ، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهدا ، أو مالك لم تلحقني . وفي ذلك تحميل للفظ ما لا يحتمله وتكثير ولما كان قوله تتبعني لم يذكر متعلقه كان الظاهر أن لا تتبعني إلى جبل الزمخشري الطور ببني إسرائيل فيجيء اعتذار هارون بقوله ( إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ) إذ كان لا يتبعه إلا المؤمنون ويبقى عباد العجل عاكفين عليه كما قالوا ( لن نبرح عليه عاكفين ) ويحتمل أن يكون المعنى تتبعني تسير بسيري في الإصلاح والتسديد ، فيجيء اعتذاره أن الأمر تفاقم فلو تقويت عليه تقاتلوا واختلفوا فكان تفريقا بينهم وإنما لاينت جهدي .
وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بلحيتي بفتح اللام وهي لغة أهل الحجاز . موسى عليه السلام شديد الغضب لله ولدينه ، ولما رأى قومه عبدوا عجلا من دون الله بعد ما شاهدوا من الآيات العظام لم يتمالك أن أقبل على أخيه قابضا على شعر رأسه ، وكان كثير الشعر وعلى شعر وجهه يجره إليه فأبدى عذره فإنه لو قاتل بعضهم ببعض لتفرقوا وتفانوا ، فانتظرتك لتكون المتدراك لهم ، وخشيت عتابك على اطراح ما وصيتني به والعمل بموجبها . وتقدم الكلام على ( وكان ابن أم ) قراءة وإعرابا وغير ذلك . وقرأ أبو جعفر ولم يرقب بضم التاء وكسر القاف مضارع أرقب .
ولما اعتذر له أخوه رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري وتقدم الكلام في الخطب في سورة يوسف . وقال ابن عطية ( فما خطبك ) كما تقول ما شأنك وما أمرك ، لكن لفظة الخطب تقتضي انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال : ما نحسك وما شؤمك ، وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك . انتهى .
وهذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله قال ( فما خطبكم أيها المرسلون ) وهو قول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهارا ولا شيئا مما ذكر . وقال : خطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه ، فإذا قيل لمن يفعل شيئا ما خطبك ، فمعناه ما طلبك له . انتهى . ومنه خطبة النكاح وهو طلبه . وقيل : هو مشتق من الخطاب كأنه قال له : ما حملك على أن خاطبت الزمخشري بني إسرائيل بما خاطبت وفعلت معهم ما فعلت ( قال بصرت بما لم يبصروا به ) . قال أبو عبيدة : علمت ما لم يعلموا . وقال : بصر بالشيء إذا علمه وأبصر إذا نظر . وقيل : بصر به وأبصره بمعنى واحد . وقرأ الزجاج الأعمش وأبو السماك : بصرت بكسر الصاد بما لم تبصروا بفتح الصاد . وقرأ بصرت بضم الباء وضم الصاد بما لم تبصروا بضم التاء وفتح الصاد مبنيا للمفعول فيهما . وقرأ الجمهور ( عمرو بن عبيد بصرت ) بضم الصاد وحمزة والكسائي وأبو بحرية والأعمش وطلحة وابن أبي ليلى وابن مناذر وابن سعدان وقعنب تبصروا بتاء الخطاب لموسى وبني إسرائيل وباقي السبعة ( يبصروا ) بياء الغيبة .
وقرأ الجمهور ( فقبضت قبضة ) بالضاد المعجمة فيهما أي أخذت بكفي مع الأصابع . وقرأ عبد الله وأبي وابن الزبير وحميد والحسن بالصاد فيهما ، وهو الأخذ بأطراف الأصابع . وقرأ الحسن بخلاف عنه وقتادة ونصر بن عاصم بضم القاف والصاد المهملة ، وأدغم ابن محيصن الضاد المنقوطة في تاء المتكلم وأبقى الإطباق مع تشديد التاء . وقال المفسرون ( الرسول ) هنا جبريل عليه [ ص: 274 ] السلام ، وتقديره من ( أثر ) فرس ( الرسول ) وكذا قرأ عبد الله ، والأثر التراب الذي تحت حافره ( فنبذتها ) أي ألقيتها على الحلي الذي تصور منه العجل فكان منها ما رأيت . وقال الأكثرون رأى السامري جبريل يوم فلق البحر ، وعن علي رآه حين ذهب موسى إلى الطور وجاءه جبريل فأبصره دون الناس .
وقال : فإن قلت : لم سماه ( الرسول ) دون الزمخشري جبريل وروح القدس ؟ قلت : حين حل ميعاد الذهاب إلى الطور أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به ، فأبصره السامري فقال : إن لهذا لشأنا فقبض القبضة من تربة موطئه ، فلما سأله موسى عن قصته قال قبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد ، ولعله لم يعرف أنه جبريل . انتهى . وهو قول علي مع زيادة .
وقال أبو مسلم الأصبهاني : ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون ، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام ، وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير أن موسى لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القول في العجل ( قال بصرت بما لم يبصروا به ) أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من دينك ( فنبذتها ) أي طرحتها . فعند ذلك أعلم موسى بما له من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له : ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير ، وتسميته رسولا مع جحده وكفره ، فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله ( ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ) فإن لم يؤمنوا بالإنزال قيل : وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلا أن فيه مخالفة المفسرين . قيل : ويبعد ما قالوه أن جبريل ليس معهودا باسم رسول ، ولم يجر له فيما تقدم ذكر حتى تكون اللام في الرسول لسابق في الذكر ، ولأن ما قالوه لا بد من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والإضمار خلاف الأصل ، ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جدا ، وكيف عرف أن حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحما ودما ؟ وكيف عرف جبريل يتردد إلى نبي وقد عرف نبوته وصحت عنده فحاول الإضلال ؟ وكيف اطلع كافر على تراب هذا شأنه ؟ فلقائل أن يقول : لعل موسى اطلع على شيء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات ، فيصير ذلك قادحا فيما أتوا به من الخوارق . انتهى . ما رجح به هذا القائل قول أبي مسلم الأصبهاني .