لما ذكر ما كان عليه الكفار [ ص: 420 ] من ادعاء الولد والشريك له ، وكان تعالى قد أعلم نبيه أنه ينتقم منهم ، ولم يبين إذ ذاك في حياته أم بعد موته ، أمره بأنه يدعو بهذا الدعاء ; أي : إن ترني ما تعدهم واقعا بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم ، ومعلوم أنه - عليه السلام - معصوم مما يكون سببا لجعله معهم ، ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهارا للعبودية وتواضعا لله ، من هذا القبيل . وقال واستغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من مجلسه سبعين مرة أبو بكر : وليتكم ولست بخيركم . قال الحسن : كان يعلم أنه خيرهم ولكن المؤمن يهضم نفسه .
وجاء الدعاء بلفظ الرب قبل الشرط وقبل الجزاء ; مبالغة في الابتهال إلى الله تعالى والتضرع ، ولأن الرب هو المالك الناظر في مصالح العبد . وقرأ الضحاك " ترئني " بالهمز بدل الياء ، وهذا كما قرئ " فإما ترئن " ، " ولترؤن " بالهمز ، وهو إبدال ضعيف ، ثم أخبر تعالى أنه قادر على تعجيل العذاب لهم كما كانوا يطلبون ذلك وذلك في حياته - عليه الصلاة والسلام - ، ولكن تأخيره لأجل يستوفون ، والجمهور على أن هذا العذاب في الدنيا . فقيل : يوم وأبو عمران الجوني بدر . وقيل : فتح مكة . وقيل : هو عذاب الآخرة .
ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق و ( التي هي أحسن ) شهادة أن لا إله إلا الله ، و ( السيئة ) الشرك . وقال الحسن : الصفح والإغضاء . وقال عطاء والضحاك : السلام إذا أفحشوا . وحكى الماوردي : ( ادفع ) بالموعظة المنكر ، والأجود العموم في الحسنى وفيما يسوء . و ( التي هي أحسن ) أبلغ من الحسنة ; للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل ، وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن . قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف . وقيل : هي محكمة ; لأن المداراة محثوث عليها ما لم يؤد إلى ثلم دين وإزراء بمروءة . ( نحن أعلم بما يصفون ) يقتصي أنها آية موادعة ، والمعنى بما يذكرون ويصفونك به مما أنت بخلافه .
ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نخسات الشياطين ، والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والإغراء به ، كما يهمز الرائض الدابة لتسرع ، ثم أمره أن يستعيذ بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه . وقال ابن زيد : همز الشيطان الجنون ، والظاهر أنه أمر بالاستعاذة من حضور الشياطين في كل وقت . وعن عند تلاوة القرآن . ابن عباس
( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) ، قال : ( حتى ) يتعلق بيصفون أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت ، والآية فاصلة بينهما على وجه الاعتراض والتأكيد للإغضاء عنهم ، مستعينا بالله على الشيطان أن يستنزله عن الحلم ويغريه على الانتصار منهم ، أو على قوله : ( الزمخشري وإنهم لكاذبون ) ، انتهى . وقال ابن عطية : ( حتى ) في هذا الموضع حرف ابتداء ، ويحتمل أن تكون غاية مجردة بتقدير كلام محذوف ، والأول أبين ; لأن ما بعدها هو المعني به المقصود ذكره ، انتهى . فتوهم ابن عطية أن حتى إذا كانت حرف ابتداء لا تكون غاية ، وهي إذا كانت حرف ابتداء لا تفارقها الغاية ولم يبين الكلام المحذوف المقدر . وقال أبو البقاء : ( حتى ) غاية في معنى العطف ، والذي يظهر لي أن قبلها جملة [ ص: 421 ] محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها ، التقدير : فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم ( حتى إذا جاء أحدهم الموت ) ، ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر :
فيا عجبا حتى كليب تسبني
أي يسبني الناس حتى كليب ، فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة ، وفي الآية دل ما قبلها عليها . وقال القشيري : احتج تعالى عليهم وذكرهم قدرته ، ثم قال : مصرون على الإنكار ( حتى إذا حضر أحدهم الموت ) تيقن ضلالته وعاين الملائكة ندم ولا ينفعه الندم ، انتهى . وجمع الضمير في ( ارجعون ) إما مخاطبة له تعالى مخاطبة الجمع ; تعظيما ، كما أخبر عن نفسه بنون الجماعة في غير موضع . وقال الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم
وقال آخر :
ألا فارحموني يا إله محمد
وإما استغاث أولا بربه وخاطب ملائكة العذاب ، وقاله . والظاهر أن الضمير في ( أحدهم ) راجع إلى الكفار ، ومساق الآيات إلى آخرها يدل على ذلك . وقال ابن جريج : من لم يزك ولم يحج سأل الرجعة . فقيل له ذلك للكفار فقرأ مستدلا لقوله : ( ابن عباس وأنفقوا مما رزقناكم ) آية سورة المنافقين . وقال : هو مانع الزكاة ، وجاء الموت أي حضر وعاينه الإنسان ، فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا ، وفي الحديث : " الأوزاعي إذا عاين المؤمن الموت قالت له الملائكة : نرجعك ؟ فيقول إلى دار الهموم والأحران بل قدما إلى الله ، وأما الكافر فيقول : " ارجعون لعلي أعمل صالحا " .
ومعنى ( فيما تركت ) : في الإيمان الذي تركته ، والمعنى لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحا كما تقول : لعلي أبني على أس ، يريد أؤسس أسا وأبني عليه . وقيل : ( فيما تركت ) من المال على ما فسره : ( كلا ) كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد . فقيل : هي من قول الله لهم . وقيل : من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم ، ومعنى ( ابن عباس هو قائلها ) : لا يسكت عنها ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه ، أو لا يجد لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث ( ومن ورائهم ) أي الكفار ( برزخ ) حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث . وفي هذه الجملة إقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا ، وإنما الرجوع إلى الآخرة ، استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه .
وقرأ ابن عباس والحسن وابن عياض : ( في الصور ) بفتح الواو ، جمع صورة ، وأبو رزين بكسر الصاد وفتح الواو ، وكذا ( فأحسن صوركم ) وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسر الفاء ، شاذ . ( فلا أنساب ) نفي عام ، فقال : عند النفخة الأولى يموت الناس ، فلا يكون بينهم نسب في ذلك الوقت وهم أموات ، وهذا القول يزيل هول الحشر . وقال ابن عباس وغيره : عند قيام الناس من القبور ، فلهول المطلع اشتغل كل امرئ بنفسه فانقطعت الوسائل وارتفع التفاخر والتعاون بالأنساب . وعن ابن مسعود قتادة : ليس أحد أبغض إلى الإنسان في ذلك اليوم ممن يعرف ; لأنه يخاف أن يكون له عنده مظلمة ، وفي ذلك اليوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه . وقيل : ( فلا أنساب ) أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعد لهم من ثواب وعقاب ، وإنما التواصل بالأعمال .
وقرأ عبد الله " ولا يساءلون " بتشديد السين أدغم التاء في السين ; إذ أصله : ( يتساءلون ) ولا تعارض بين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله : ( وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ) ; لأن يوم القيامة مواطن ومواقف ، ويمكن أن يكون انتفاء التساؤل عند النفخة الأولى ، وأما في الثانية فيقع التساؤل .
وتقدم الكلام في الموازين وثقلها وخفتها في أوائل الأعراف . وقال : ( الزمخشري في جهنم خالدون ) بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه ; لأن الصلة لا محل لها ، أو خبر بعد خبر لأولئك ، أو خبر مبتدأ محذوف ، انتهى . جعل ( في جهنم ) بدلا من ( خسروا ) ، وهذا بدل غريب ، وحقيقته أن [ ص: 422 ] يكون البدل الفعل الذي يتعلق به ( في جهنم ) أي استقروا في جهنم ، وكأنه من بدل الشيء من الشيء ، وهما لمسمى واحد على سبيل المجاز ; لأن من خسر نفسه استقر في جهنم . وأجاز أبو البقاء أن يكون ( الذين ) نعتا لأولئك ، وخبر ( أولئك ) ( في جهنم ) ، والظاهر أن يكون خبرا لأولئك لا نعتا .
وخص الوجه باللفح ; لأنه أشرف ما في الإنسان ، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء ، فإذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح . ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه ، وفي الترمذي تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته ، قال هذا حديث حسن صحيح . وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة " كلحون " بغير ألف .