( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين )
لما تقدمت أوامر ونواه في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك ، وكان الموجب للطموح من الرجال إلى النساء ومن النساء إلى الرجال ، هو عدم التزوج غالبا ; لأن في تكاليف النكاح وما يجب لكل واحد من الزوجين ما يشغل أمر تعالى بإنكاح الأيامى ، وهم الذين لا أزواج لهم من الصنفين حتى يشتغل كل منهما بما يلزمه ، فلا يلتفت إلى غيره . والظاهر أن الأمر في قوله : ( وأنكحوا ) للوجوب ، وبه قال أهل الظاهر ، وأكثر العلماء على أنه هنا للندب ، ولم يخل عصر من [ ص: 451 ] الأعصار من وجود ( الأيامى ) ولم ينكر ذلك ، ولا أمر الأولياء بالنكاح .
وقال : ( الزمخشري الأيامى ) واليتامى ، أصلهما أيائم ويتائم فقلبا ، انتهى . وفي التحرير قال أبو عمر : وأيامى مقلوب أيائم ، وغيره من النحويين ذكر أن أيما ويتيما جمعا على أيامى ويتامى شذوذا يحفظ ، ووزنه فعالى ، وهو ظاهر كلام . قال سيبويه في أواخر هذا باب تكسيرك ما كان من الصفات . وقالوا : وج ووجيا كما قالوا : زمن وزمنى ، فأجروه على المعنى ، كما قالوا : يتيم ويتامى وأيم وأيامى فأجروه مجرى رجاعى ، انتهى . وتقدم في المفردات الأيم من لا زوج له من ذكر أو أنثى . وفي شرح كتاب سيبويه سيبويه لأبي بكر الخفاف : الأيم التي لا زوج لها ، وأصله في التي كانت متزوجة ففقدت زوجها برزء طرأ عليها فهو من البلايا ، ثم قيل في البكر مجازا ; لأنها لا زوج لها ، انتهى .
( منكم ) خطاب للمؤمنين ، أمر تعالى بإنكاح من تأيم من الأحرار والحرائر ، ومن فيه صلاح من العبيد والإماء ، واندرج المؤنث في المذكر في قوله : ( والصالحين ) وخص الصالحين ليحصن لهم دينهم ويحفظ عليهم صلاحهم ، ولأن : ( الصالحين ) من الأرقاء هم الذين يشفق مواليهم عليهم وينزلونهم منزلة الأولاد في الأثرة والمودة ، فكانوا مظنة للاهتمام بشأنهم وتقبل الوصية فيهم ، والمفسدون منهم حالهم عند مواليهم على عكس ذلك . وقيل : معنى ( والصالحين ) أي للنكاح والقيام بحقوقه . وقرأ مجاهد والحسن من عبيدكم ، بالياء مكان الألف وفتح العين ، وأكثر استعماله في المماليك .
و ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) هذا مشروط بالمشيئة المذكورة في قوله : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ) . ( والله واسع ) أي ذو غنى وسعة ، يبسط الله لمن يشاء . ( عليهم ) بحاجات الناس ، فيجري عليهم ما قدر من الرزق . ( وليستعفف ) أي ليجتهد في العفة وصون النفس ، وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها ، وجاء الفك على لغة الحجاز ، ولا يعلم أحد قرأ و ( ليستعف ) بالإدغام . ( الذين لا يجدون نكاحا ) . قيل النكاح هنا اسم ما يمهر وينفق في الزواج ، كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس ، ويؤيده قوله : ( حتى يغنيهم الله من فضله ) ; فالمأمور بالاستعفاف هو من عدم المال الذي يتزوج به ويقوم بمصالح الزوجية . والظاهر أنه أمر ندب ; لقوله قبل : ( إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) .
ومعنى ( لا يجدون نكاحا ) أي : لا يتمكنون من الوصول إليه ، فالمعنى أنه أمر بالاستعفاف كل من تعذر عليه النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر ، ثم أغلب الموانع عن النكاح عدم المال ، و ( حتى يغنيهم ) ترجئة للمستعففين وتقدمة للوعد بالتفضل عليهم ، فالمعنى ليكون انتظار ذلك وتأميله لطفا في استعفافهم وربطا على قلوبهم ، وما أحسن ما ترتبت هذه الأوامر ; حيث أمر أولا بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية ; وهو غض البصر ، ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ، ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه ، انتهى . وهو من كلام ، وهو حسن ، ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء ، رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ; ليصيروا أحرارا فيتصرفون في أنفسهم . الزمخشري
( والذين يبتغون الكتاب ) أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة . ( مما ملكت ) يعم المماليك الذكور والإناث . و ( الذين ) يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره الجملة ، والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط ، ويحتمل أن يكون منصوبا كما تقول : زيدا فاضربه ; لأنه يجوز أن تقول زيدا فاضرب ، وزيدا اضرب ، فإذا دخلت الفاء كان التقدير بنية فاضرب زيدا ، فالفاء في جواب أمر محذوف ، وهذا يوضح في النحو بأكثر من هذا . قال الأزهري : وسمي هذا العقد مكاتبة لما يكتب للعبد على السيد من العتق إذا أدى ما تراضيا عليه من المال ، وما [ ص: 452 ] يكتب للسيد على العبد من النجوم التي يؤديها ، والظاهر وجوب المكاتبة ; لقوله : ( فكاتبوهم ) وهذا مذهب عطاء ، ، و وعمرو بن دينار الضحاك ، ، وابن سيرين وداود ، وظاهر قول عمر ; لأنه قال حين سأل لأنس سيرين الكتابة فتلكأ أنس كاتبه : أو لأضربنك بالدرة ، وذهب مالك وجماعة إلى أنه أمر ندب وصيغتها كاتبتك على كذا ، ويعين ما كاتبه عليه ، وظاهر الأمر يقتضي أنه لا يشترط تنجيم ولا حلول بل يكون حالا ومؤجلا ومنجما وغير منجم ، وهذا مذهب أبي حنيفة .
وقال : لا يجوز على أقل من ثلاثة أنجم . وقال أكثر العلماء : يجوز على نجم واحد . وقال الشافعي ابن خويز منداد : إذا كاتب على مال معجل كان عتقا على مال ولم تكن كتابة ، وأجاز بعض المالكية الكتابة الحالية وسماها قطاعة . والخير المال ; قاله ابن عباس ومجاهد وعطاء والضحاك ، أو الحيلة التي تقتضي الكسب ; قاله أيضا ، أو الدين ; قاله ابن عباس الحسن ، أو إقامة الصلاة ; قاله ، أو الصدق والوفاء والأمانة ; قاله عبيدة السلماني الحسن وإبراهيم ، أو إرادة خير بالكتابة ; قاله . وقال سعيد بن جبير : الأمانة والقوة على الكسب ، والذي يظهر من الاستعمال أنه الدين يقول : فلان فيه خير فلا يتبادر إلى الذهن إلا الصلاح ، والأمر بالكتابة مقيد بهذا الشرط ، فلو لم يعلم فيه خيرا لم تكن الكتابة مطلوبة بقوله : ( الشافعي فكاتبوهم ) ، والظاهر في ( وآتوهم ) أنه أمر للمكاتبين ، وكذا قال المفسرون وجمهور العلماء ، واختلفوا : هل هو على الوجوب أو على الندب ؟ واستحسن ابن مسعود والحسن أن يكون ثلث الكتابة ، وعلي ربعها ، و قتادة عشرها . وقال عمر : من أول نجومه مبادرة إلى الخير . وقال مالك : من آخر نجم . وقال بريدة والحسن والنخعي وعكرمة والكلبي والمقاتلان : أمر الناس جميعا بمواساة المكاتب وإعانته . وقال : الخطاب لولاة الأمور أن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حقهم ، وهو الذي تضمنه قوله : ( زيد بن أسلم وفي الرقاب ) .
وقال صاحب النظم : لو كان المراد بالإيتاء الحط لوجب أن تكون العبارة العربية ضعوا عنهم أو قاصوهم ، فلما قال : ( وآتوهم ) دل على أنه من الزكاة ; إذ هي مناولة وإعطاء ، ويؤكده أنه أمر بإعطاء ، وما أطلق عليه الإعطاء كان سبيله الصدقة . وقوله : ( من مال الله الذي آتاكم ) ، هو ما ثبت ملكه للمالك أمر بإخراج بعضه ، ومال الكتابة ليس بدين صحيح ; لأنه على عبده ، والمولى لا يثبت له على عبده دين صحيح ، وأيضا ما آتاه الله هو الذي يحصل في يده ويملكه وما يسقطه عقيب العقد لا يحصل له عليه ملك ، فلا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه .
( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ) في صحيح مسلم عن جابر عبد الله بن أبي ، يقال لها مسيكة ، وأخرى يقال لها أميمة ، كان يكرههما على الزنا ، فشكيا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت . وقيل : أن جارية ل كانت له ست : ، معاذة ومسيكة ، وأميمة ، وعمرة ، وأروى ، وقتيلة ، جاءته إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد ، فقال لهما : ارجعا فازنيا ، فقالتا : والله لا نفعل ذلك ، وقد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا ، فأتتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشكتا فنزلت ، والفتاة المملوكة ، وهذا خطاب للجميع ، ويؤكد أن يكون ( وآتوهم ) خطابا للجميع ، والنهي عن مشروط بإرادة التعفف منهن ، لأنه لا يمكن الإكراه إلا مع إرادة التحصن ، أما إذا كانت مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه . وكلمة ( إن ) وإيثارها على إذا إيذان بأن المسافحات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من خبر الشاذ النادر . وقد ذهب هذا النظر على كثير من المفسرين ، فقال بعضهم : ( الإكراه على الزنا إن أردن ) راجع إلى قوله : ( وأنكحوا الأيامى منكم ) ، وهذا فيه بعد وفصل كثير ، وأيضا فالأيامى يشمل الذكور والإناث ، فكان لو أريد هذا المعنى لكان التركيب : إن أرادوا تحصنا فيغلب المذكر على المؤنث . وقال بعضهم : هذا الشرط ملغى . وقال الكرماني : هذا شرط [ ص: 453 ] في الظاهر ، وليس بشرط كقوله : ( إن علمتم فيهم خيرا ) ، ومع أنه وإن كان لم يعلم خيرا صحت الكتابة .
وقال ابن عيسى : جاء بصيغة الشرط لتفحيش الإكراه على ذلك ، وقال : لأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة ، انتهى . و ( عرض الحياة الدنيا ) هو ما يكسبنه بالزنا . وقوله : ( فإن الله ) جواب للشرط . والصحيح أن التقدير ( غفور رحيم ) لهم ، ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على ( من الذين ) هو اسم الشرط ، ويكون ذلك مشروطا بالتوبة . ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم قدروا ( فإن الله ) ( غفور رحيم ) لهن ، أي : للمكرهات ، فعريت جملة جواب الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط . وقد ضعف ما قلناه أبو عبد الله الرازي ، فقال : فيه وجهان ، أحدهما : فإن الله غفور رحيم لهن ; لأن الإكراه يزيل الإثم والعقوبة من المكره فيما فعل ، والثاني : فإن الله غفور رحيم للمكره بشرط التوبة ، وهذا ضعيف ; لأنه على التفسير الأول لا حاجة لهذا الإضمار . وعلى الثاني يحتاج إليه ، انتهى . وكلامهم كلام من لم يمعن في لسان العرب .
( فإن قلت ) : قوله ( إكراههن ) مصدر أضيف إلى المفعول ، والفاعل مع المصدر محذوف ، والمحذوف كالملفوظ ، والتقدير من بعد إكراههم إياهن ، والربط يحصل بهذا المحذوف المقدر فلتجز المسألة ، ( قلت ) : لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف ، تقول : هند عجبت من ضربها زيدا فتجوز المسألة ، ولو قلت هند عجبت من ضرب زيدا لم تجز . ولما قدر في أحد تقديراته لهن أورد سؤالا فقال ( فإن قلت ) : لا حاجة إلى تعليق المغفرة بهن ; لأن المكرهة على الزنا بخلاف المكره عليه في أنها غير آثمة ( قلت ) : لعل الإكراه كان دون ما اعتبرته الشريعة من إكراه بقتل أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف وغيره ، حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي تعذر فيه فتكون آثمة ، انتهى . وهذا السؤال والجواب مبنيان على تقدير لهن . الزمخشري
وقرأ ( مبينات ) بفتح الياء الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر ، أي : بين الله في هذه السورة وأوضح آيات تضمنت أحكاما وحدودا وفرائض ، فتلك الآيات هي المبينة ، ويجوز أن يكون المراد مبينا فيها ، ثم اتسع فيكون المبين في الحقيقة غيرها . وهي ظرف للمبين . وقرأ باقي السبعة والحسن وطلحة بكسر الياء ، فإما أن تكون متعدية أي : ( مبينات ) غيرها من الأحكام والحدود ، فأسند ذلك إليها مجازا ، وإما أن تكون لا تتعدى ، أي : بينات في نفسها لا تحتاج إلى موضح بل هي واضحة ; لقولهم في المثل : قد بين الصبح لذي عينين . أي : قد ظهر ووضح . وقوله ( ومثلا ) معطوف على ( آيات ) ، فيحتمل أن يكون المعنى ( ومثلا ) من أمثال الذين من قبلكم ، أي : قصة غريبة من قصصهم ، كقصة يوسف ومريم في براءتهما ، لبراءة من رميت بحديث الإفك ، لينظروا قدرة الله في خلقه وصنعه فيه فيعتبروا . وقال والأعمش الضحاك : والمراد بالمثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود ، فأنزل في القرآن مثله . وقال مقاتل : أي شبها من حالهم في تكذيب الرسل ، أي : بينا لكم ما أحللنا بهم من العذاب لتمردهم ، فجعلنا ذلك مثلا لكم لتعلموا أنكم إذا شاركتموهم في المعصية كنتم مثلهم في استحقاق العقاب . ( وموعظة للمتقين ) أي : ما وعظ في الآيات والمثل ، من نحو قوله : ( ولا تأخذكم بهما رأفة ) ( لولا إذ سمعتموه ) ( يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا ) وخص المتقين ; لأنهم المنتفعون بالموعظة .