[ ص: 397 ] لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم ، ذكر شرابهم ، وقدم ذكر ، والآنية جمع إناء ، وتقدم شرح الأكواب . وقرأ الآنية التي يسقون منها نافع : قواريرا قواريرا بتنوينهما وصلا وإبداله ألفا وقفا . والكسائي وابن عامر وحمزة وأبو عمرو وحفص : بمنع صرفهما . وابن كثير : بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني . وقال : وهذا التنوين بدل من ألف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لاتباعه الأول . انتهى . وكذا قال في قراءة من قرأ ( سلاسلا ) بالتنوين : إنه بدل من حرف الإطلاق ، أجرى الفواصل مجرى أبيات الشعر ، فكما أنه يدخل التنوين في القوافي المطلقة إشعارا بترك الترنم ، كما قال الراجز : الزمخشري
يا صاح ما هاج الدموع الذرفن
فهذه النون بدل من الألف ، إذ لو ترنم لوقف بألف الإطلاق . ( من فضة ) أي : مخلوقة من فضة ، ومعنى ( كانت ) : أنه أوجدها تعالى من قوله : ( كن فيكون ) تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن الجامعة بين بياض الفضة ونصوعها وشفيف القوارير وصفائها ، ومن ذلك قوله : ( كان مزاجها كافورا ) . وقرأ : قوارير من فضة بالرفع ، أي : هو قوارير . وقرأ الجمهور : ( الأعمش قدروها ) مبنيا للفاعل ، والضمير للملائكة ، أو للطواف عليهم ، أو المنعمين ، والتقدير : على قدر الأكف ، قالهالربيع . أو على قدر الري ، قاله مجاهد . وقال : ( الزمخشري قدروها ) صفة لقوارير من فضة ، ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروها . وقيل : الضمير للطائفين بها يدل عليه قوله : ( ويطاف عليهم ) على أنهم قدروا شرابها على قدر الري ، وهو ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته ، لا يفضل عنها ولا يعجز . وعن مجاهد : لا يفيض ولا يغيض . انتهى . وقرأ علي وابن عباس والسلمي ، والشعبي وابن أبزى وقتادة ، و وزيد بن علي الجحدري [ ص: 398 ] وعبد الله بن عبيد بن عمير وأبو حيوة وعباس ، عن أبان ، و عن الأصمعي أبي عمرو ، وابن عبد الخالق عن يعقوب : ( قدروها ) مبنيا للمفعول . قال أبو علي : كأن اللفظ قدروا عليها ، وفي المعنى قلب ; لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله : ( ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة ) ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ألقى العود على الحرباء . وقال : ووجهه أن يكون من قدر منقولا من قدر ، تقول : قدرت الشيء وقدرنيه فلان إذا جعلك قادرا عليه ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا . انتهى . وقال الزمخشري أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ، ففسر بعضهم قول أبي حاتم هذا ، قال : فيه حذف على حذف ، وهو أنه كان قدر على قدر ريهم إياها ، ثم حذف على فصار قدر ريهم مفعولا لم يسم فاعله ، ثم حذف قدر فصار ريهم قائما مقامه ، ثم حذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدر النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل . انتهى . والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل قدر ريهم منها تقديرا ، فحذف المضاف وهو الذي ، وأقيم الضمير مقامه فصار التقدير : قدروا منها ، ثم اتسع في الفعل فحذفت " من " ووصل الفعل إلى الضمير بنفسه فصار قدروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف واتساع في المجرور .
والظاهر أن الكأس تمزج بالزنجبيل ، والعرب تستلذه وتذكره في وصف رضاب أفواه النساء ، كما أنشدنا لهم في الكلام على المفردات . وقال : تسمى العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها . انتهى . وقال الزمخشري قتادة : الزنجبيل اسم لعين في الجنة ، يشرب منها المقربون صرفا ، ويمزج لسائر أهل الجنة . وقال الكلبي : يسقى بجامين ، الأول مزاجه الكافور ، والثاني مزاجه الزنجبيل . و ( عينا ) بدل من ( كأسا ) على حذف ، أي : كأس عين ، أو من ( زنجبيل ) على قول قتادة . وقيل : منصوب على الاختصاص . والظاهر أن هذه العين تسمى سلسبيلا بمعنى توصف بأنها سلسلة في الاتساع سهلة في المذاق ، ولا يحمل سلسبيل على أنه اسم حقيقة ; لأنه إذ ذاك كان ممنوع الصرف للتأنيث والعلمية . وقد روي عن طلحة أنه قرأه بغير ألف ، جعله علما لها ، فإن كان علما فوجه قراءة الجمهور بالتنوين المناسبة للفواصل ، كما قال ذلك بعضهم في ( سلاسلا و ( قواريرا ) . ويحسن ذلك أنه لغة لبعض العرب ، أعني صرف ما لا يصرفه أكثر العرب . وقال : وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية . انتهى . وكان قد ذكر ، فقال : شراب سلسل وسلسال وسلسيل ، فإن كان عنى أنه زيد حقيقة فليس بجيد ; لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو ، وإن عنى أنها حرف جاء في سنح الكلمة وليس في سلسيل ولا في سلسال ، فيصح ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفا في المادة . الزمخشري
وقال بعض المعربين : سلسبيلا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته بسؤال السبيل إليها ، وقد نسبوا هذا القول إلى علي - كرم الله وجهه - ويجب طرحه من كتب التفسير . وأعجب من ذلك توجيه له واشتغاله بحكايته ، ويذكر نسبته إلى الزمخشري علي - كرم الله وجهه ورضي عنه . وقال قتادة : هي عين تنبع من تحت العرش من جنة عدن إلى الجنان . وقال عكرمة : عين سلس ماؤها . وقال مجاهد : عين حديرة الجرية سلسلة سهلة المساغ . وقال مقاتل : عين يتسلسل عليهم ماؤها في مجالسهم كيف شاءوا ، وتقدم شرح ( مخلدون ) وتشبيه باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الولدان يجيئون ويذهبون . وقيل : شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا أنثر من صدفه ، فإنه أحسن في العين وأبهج للنفس . [ ص: 399 ] وجواب ( إذا رأيت ) : ( الجنة نعيما ) ومفعول فعل الشرط محذوف ، حذف اقتصارا ، والمعنى : وإذا رميت ببصرك هناك ، و " ثم " ظرف العامل فيه رأيت . وقيل : التقدير : وإذا رأيت ما ثم ، فحذف ما كما حذف في قوله : ( لقد تقطع بينكم ) أي : ما بينكم . وقال ، وتبعه الزجاج ، فقال : ومن قال معناه ما ثم فقد أخطأ ; لأن ثم صلة لما ، ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة . انتهى . وليس بخطأ مجمع عليه ، بل قد أجاز ذلك الزمخشري الكوفيون ، وثم شواهد من لسان العرب ، كقوله :
فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
أي : ومن يمدحه ، فحذف الموصول وأبقى صلته . وقال ابن عطية : و " ثم " ظرف العامل فيه ( رأيت ) أو معناه التقدير : رأيت ما ثم حذفت ما . انتهى . وهذا فاسد ; لأنه من حيث جعله معمولا لـ ( رأيت ) لا يكون صلة لما ; لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف ، أي : ما استقر ثم . وقرأ الجمهور : " ثم " بفتح الثاء . وحميد : ثم بضم الثاء حرف عطف ، وجواب " إذا " على هذا محذوف ، أي : وإذا رميت ببصرك رأيت نعيما . والملك الكبير قيل : النظر إلى الله تعالى . وقال الأعرج : استئذان الملائكة عليهم . وقال أكثر المفسرين : الملك الكبير : اتساع مواضعهم . وقال السدي الكلبي : كبيرا عريضا يبصر أدناهم منزلة في الجنة مسيرة ألف عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقاله عبد الله بن عمر ، وقال : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف غلام ، كلهم مختلف شغله من شغل أصحابه . وقال الترمذي ، وأظنه لا الترمذي الحكيم أبا عيسى الحافظ صاحب الجامع : هو ملك التكوين والمشيئة ، إذا أراد شيئا كان لقوله تعالى : ( لهم ما يشاءون فيها ) وقيل غير هذه الأقوال .
وقرأ عمر وابن عباس والحسن ومجاهد والجحدري وأهل مكة وجمهور السبعة : ( عاليهم ) بفتح الياء . : بخلاف عنه . و وابن عباس الأعرج وأبو جعفر وشيبة ، وابن محيصن ونافع وحمزة : بسكونها ، وهي رواية أبان عن عاصم . وقرأ ابن مسعود والأعمش وطلحة : بالياء مضمومة . وعن وزيد بن علي الأعمش وأبان أيضا عن عاصم : بفتح الياء . وقرأ : عليهم حرف جر ابن سيرين ومجاهد وقتادة وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة والزعفراني وأبان أيضا . وقرأت عائشة - رضي الله عنها : علتهم بتاء التأنيث فعلا ماضيا ، فثياب فاعل . ومن قرأ بالياء مضمومة فمبتدأ خبره ثياب ، ومن قرأ عليهم حرف جر فثياب مبتدأ ; ومن قرأ بنصب الياء وبالتاء ساكنة فعلى الحال ، وهو حال من المجرور في ( ويطوف عليهم ) فذو الحال الطوف عليهم والعامل يطوف . وقال : وعاليهم بالنصب على أنه حال من الضمير في ( الزمخشري يطوف عليهم ) أو في ( حسبتهم ) أي : يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب ، أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب . ويجوز أن يراد : رأيت أهل نعيم وملك عاليهم ثياب . انتهى . إما أن يكون حالا من الضمير في ( حسبتهم ) فإنه لا يعني إلا ضمير المفعول ، وهذا عائد على ( ولدان ) ولذلك قدر عاليهم بقوله : عاليا لهم ، أي : للولدان ، وهذا لا يصح ; لأن الضمائر الآتية بعد ذلك تدل على أنها للمطوف عليهم من قوله : ( وحلوا وسقاهم ) وإن هذا كان لكم جزاء ، وفك الضمائر يجعل هذا كذا ، وذاك كذا مع عدم الاحتياج والاضطرار إلى ذلك لا يجوز . وأما جعله حالا من محذوف وتقديره أهل نعيم ، فلا حاجة إلى ادعاء الحذف مع صحة الكلام وبراعته دون تقدير ذلك المحذوف ، و ( ثياب ) مرفوع على الفاعلية بالحال . وقال ابن عطية : ويجوز في النصب في القراءتين أن يكون على الظرف ; لأنه بمعنى فوقهم . انتهى . وعال وعالية اسم فاعل ، فيحتاج في إثبات كونهما ظرفين إلى أن يكون منقولا من كلام العرب عاليك أو عاليتك ثوب . وقرأ الجمهور : ( ثياب ) بغير تنوين على الإضافة إلى ( سندس ) . وقرأ ابن عبلة وأبو حيوة : عليهم ، برفع الثلاثة ، برفع سندس بالصفة ; لأنه جنس ، كما تقول : ثوب حرير ، [ ص: 400 ] تريد من حرير . وبرفع ( خضر ) بالصفة أيضا لأن الخضرة لونها ; ورفع ( ثياب سندس خضر وإستبرق إستبرق ) بالعطف عليها ، وهو صفة أقيمت مقام الموصوف ، تقديره : وثياب إستبرق ، أي من إستبرق . وقرأ الحسن وعيسى ونافع وحفص : ( خضر ) برفعهما . وقرأ العربيان و نافع في رواية : ( خضر ) بالرفع صفة لثياب ، و ( إستبرق ) جر عطفا على سندس . وقرأ ابن كثير وأبو بكر : بجر خضر صفة لسندس ، ورفع ( إستبرق ) عطفا على " ثياب " . وقرأ الأعمش وطلحة والحسن وأبو عمرو : بخلاف عنهما . و حمزة : ووصف اسم الجنس الذي بينه وبين واحده تاء التأنيث ، والجمع جائز فصيح كقوله تعالى : ( والكسائي وينشئ السحاب الثقال ) وقال : ( والنخل باسقات ) فجعل الحال جمعا ، وإذا كانوا قد جمعوا صفة اسم الجنس الذي ليس بينه وبين واحده تاء التأنيث المحكي بأل بالجمع ، كقولهم : أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض ، حيث جمع وصفهما ليس بسديد ، بل هو جائز أورده النحاة مورد الجواز بلا قبح .
وقرأ ابن محيصن : ( وإستبرق ) وتقدم ذلك والكلام عليه في الكهف . وقال : " هنا " وقرئ ( وإستبرقا ) نصبا في موضع الجر على منع الصرف لأنه أعجمي ، وهو غلط لأنه نكرة يدخله حرف التعريف ، تقول : الإستبرق ، إلا أن يزعم الزمخشري ابن محيصن أنه قد يجعل علما لهذا الضرب من الثياب . وقرئ : ( واستبرق ) بوصل الهمزة والفتح على أنه مسمى باستفعل من البريق ، وليس بصحيح أيضا ; لأنه معرب مشهور تعريبه ، وأن أصله إستبره . انتهى . ودل قوله : إلا أن يزعم ابن محيصن ، وقوله بعد : وقرئ واستبرق بوصل الألف والفتح أن قراءة ابن محيصن هي بقطع الهمزة مع فتح القاف . والمنقول عنه في كتب القراءات أنه قرأ بوصل الألف وفتح القاف . وقال أبو حاتم : لا يجوز ، والصواب أنه اسم جنس لا ينبغي أن يحمل ضميرا ، ويؤيد ذلك دخول لام المعرفة عليه ، والصواب قطع الألف وإجراؤه على قراءة الجماعة . انتهى . ونقول : إن ابن محيصن قارئ جليل مشهور بمعرفة العربية ، وقد أخذ عن أكابر العلماء ، ويتطلب لقراءته وجه ، وذلك أنه يجعل استفعل من البريق . تقول : برق واستبرق ، كعجب واستعجب .
ولما كان قوله : ( خضر ) يدل على الخضرة ، وهي لون ذلك السندس ، وكانت الخضرة مما يكون لشدتها دهمة وغبش ، أخبر أن في ذلك اللون بريقا وحسنا يزيل غبشته . فاستبرق فعل ماض ، والضمير فيه عائد على السندس أو على الاخضرار الدال عليه قوله : ( خضر ) . وهذا التخريج أولى من تلحين من يعرف العربية وتوهيم ضابط ثقة ( أساور من فضة ) وفي موضع آخر ( من ذهب ) أي : يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما ، كما يقع للنساء في الدنيا . قال : وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران ، سوار من ذهب وسوار من فضة . انتهى . فقوله بالمعصم إما أن يكون مفعول أحسن ، وإما أن يكون بدلا منه ، وإما أن يكون مفعول أحسن ، وقد فصل بينهما بالجار والمجرور . فإن كان الأول ، فلا يجوز ; لأنه لم يعهد زيادة الباء في مفعول أفعل للتعجب ، لا تقول : ما أحسن [ ص: 401 ] بزيد تريد ما أحسن زيدا وإن كان الثاني ، ففي مثل هذا الفصل خلاف ، والمنقول عن الزمخشري أنه لا يجوز ، والمولد منا إذا تكلم ينبغي أن يتحرز في كلامه عما فيه الخلاف . سيبويه