فيها عنابيل أسود ونمر
وتقدم شرح أكثر هذه القراءات في المفردات ، وقرأ الجمهور ، ومنهم رضي الله تعالى عنه : ( جمالات ) بكسر الجيم وبالألف والتاء ، جمع جمال جمع الجمع وهي الإبل ، كقولهم : رجالات عمر بن الخطاب قريش ، وابن عباس وقتادة ، ، وابن جبير والحسن ، وأبو رجاء بخلاف عنهم كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم ، وهي جمال السفن ، الواحد منها جملة لكونه جملة من الطاقات والقوى ، ثم جمع على جمل وجمال ، ثم جمع جمال ثانيا جمع صحة فقالوا : جمالات . وقيل : الجمالات : قلوص الجسور . وقرأ حمزة والكسائي وحفص ، وأبو عمرو في رواية ، الأصمعي وهارون عنه : جمالة بكسر الجيم ، لحقت جمالا التاء لتأنيث الجمع ، كحجر وحجارة ، وقرأ ، ابن عباس والسلمي ، ، والأعمش وأبو حيوة ، وأبو بحرية وابن أبي عبلة ورويس : كذلك ، إلا أنهم ضموا الجيم ، قال ابن عباس : الجمالات : قلوص السفن ، وهي حباله العظام ، إذا اجتمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام ، وقال وابن جبير أيضا : الجمالات : قطع النحاس الكبار ، وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة ، وقرأ الحسن : صفر ، بضم الفاء ، والجمهور : بإسكانها ، شبه الشرر أولا بالقصر ، وهو الحصن من جهة العظم ومن جهة الطول في الهواء ، وثانيا بالجمال لبيان التشبيه ، ألا تراهم يشبهون الإبل بالأفدان ، وهي القصور ؟ قال الشاعر : ابن عباس
فوقفت فيها ناقتي فكأنها فدن لأقضي حاجة المتلوم
ومن قرأ بضم الجيم ، فالتشبيه من جهة العظم والطول ، والصفرة الفاقعة أشبه بلون الشرر ، قاله الجمهور : وقيل : صفر سود ، وقيل : سود تضرب إلى الصفرة ، وقال عمران بن حطان الرقاشي :
دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم بمثل الجمال الصفر نزاعة الشوى
وقرأ الأعمش والأعرج وزيد بن علي وعيسى وأبو حيوة وعاصم في رواية : ( هذا يوم لا ينطقون ) بفتح الميم ، والجمهور : برفعها ، قال ابن عطية : لما أضاف إلى غير متمكن بناه فهي فتحة بناء ، وهي في موضع رفع ، وقال صاحب اللوامح : قال عيسى : هي لغة سفلى مضر ، يعني بناءهم يوم مع لا على الفتح ، لأنهم جعلوا يوم مع لا كالاسم الواحد ، فهو في موضع رفع لأنه خبر المبتدأ . انتهى . والجملة المصدرة بمضارع مثبت أو منفي لا يجيز البصريون في الظرف المضاف إليها البناء بوجه ، وإنما هذا مذهب كوفي ، قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون نصبا صحيحا على الظرف ، فيصير هذا إشارة إلى ما تقدمه من الكلام دون إشارة إلى ( يوم ) ، ويكون العامل في نصب ( يوم ) نداء تقدمه من صفة [ ص: 408 ] جهنم ، ورميها بالشرر في ( يوم لا ينطقون ) ، فيكون يومئذ كلاما معترضا لا يمنع من تفريغ العامل للمعمول ، كما كانت ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ذواتا أفنان ) انتهى . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون ظرفا ، وتكون الإشارة بهذا إلى رميها بشرر ، وقال : ونصبه الزمخشري ، أي هذا الذي قص عليكم واقع يومئذ ، وهنا نفي نطقهم ، وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم نطقوا في مواضع من هذا اليوم ، وذلك باعتبار طول اليوم ، فيصح أن ينفي القول فيه في وقت ويثبت في وقت ، أو نفى نطقهم بحجة تنفع وجعل نطقهم بما لا ينفع كلا نطق . الأعمش
وقرأ القراء كلهم فيما أعلم : ( ولا يؤذن ) مبنيا للمفعول . وحكى أن أبو علي الأهوازي قرأ : ولا يأذن مبنيا للفاعل أي الله تعالى ( زيد بن علي فيعتذرون ) : عطف على ( ولا يؤذن ) داخل في حيز نفي الإذن ، أي فلا إذن فاعتذار ، ولم يجعل الاعتذار متسببا عن الإذن فينصب . وقال ابن عطية : ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رءوس الآي ، والوجهان جائزان . انتهى . فجعل امتناع النصب هو تشابه رءوس الآي ، وقال الوجهان جائزان فظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وأن معناهما واحد ، وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسببا بل صريح عطف ، والنصب يكون فيه متسببا فافترقا ، وذهب أبو الحجاج الأعلم إلى أنه قد يرفع الفعل ويكون معناه المنصوب بعد الفاء وذلك قليل ، وإنما جعل النحويون معنى الرفع غير معنى النصب رعيا للأكثر في كلام العرب ، وجعل دليله ذلك ، وهذه الآية كظاهر كلام ابن عطية ، وقد رد ذلك عليه ابن عصفور وغيره .
( هذا يوم الفصل جمعناكم ) للكفار ، ( والأولين ) : قوم نوح عليه السلام ، وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين ، أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء ( فإن كان لكم كيد ) : أي في هذا اليوم ، كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه ، ( فكيدون ) اليوم ، وهذا تعجيز لهم وتوبيخ ، ولما كان في سورة الإنسان ذكر نزرا من ، وأطنب في وصف أحوال الكفار في الآخرة فيها ، جاء في هذه السورة الإطناب في وصف الكفار والإيجاز في وصف المؤمنين ، فوقع بذلك الاعتدال بين السورتين ، وقرأ الجمهور : ( أحوال المؤمنين في ظلال ) جمع ظل ، : في ظلل جمع ظلة ( والأعمش كلوا واشربوا ) خطاب لهم في الآخرة على إضمار القول ، ويدل عليه ( بما كنتم تعملون ) . ( كلوا وتمتعوا ) خطاب للكفار في الدنيا ، ( قليلا ) : أي زمانا قليلا ، إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت ، وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم ( وإذا قيل لهم اركعوا ) من قال إنها مكية ، قال هي في قريش ، ومن قال إن هذه الآية مدنية قال هي في المنافقين ، وقال مقاتل : نزلت في ثقيف ، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني ، إنها مسبة ، فأبى وقال : لا خير في دين لا صلاة فيه . ومعنى اركعوا : اخشعوا لله وتواضعوا له بقبول وحيه ، وقيل : الركوع هنا عبارة عن الصلاة ، وخص من أفعالها الركوع ؛ لأن العرب كانوا يأنفون من الركوع والسجود ، وجاء في هذه السورة بعد كل جملة قوله : ( ويل يومئذ للمكذبين ) لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء من أحوال الآخرة وتقريرات من أحوال الدنيا ، فناسب أن نذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة ، والضمير في ( بعده ) عائد على القرآن ، والمعنى أنه قد تضمن من الإعجاز والبلاغة والأخبار المغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي ، فإذا كانوا مكذبين به ، فبأي حديث بعده يصدقون به ؟ أي لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذا الحديث الذي هو القرآن ، وقرأ الجمهور : ( يؤمنون ) بياء الغيبة ، ويعقوب ، وابن عامر في رواية : بتاء الخطاب .