( مرصادا ) : مفعال من الرصد ، ترصد من حقت عليه كلمة العذاب . وقال مقاتل : مجلسا للأعداء وممرا للأولياء ، ومفعال للمذكر والمؤنث بغير تاء وفيه معنى النسب ، أي : ذات رصد ، وكل ما جاء من الأخبار والصفات على معنى النسب فيه التكثير واللزوم . وقال الأزهري : المرصاد : المكان الذي يرصد فيه العدو . وقال الحسن : إلا أن على النار المرصاد ، فمن جاء بجواز جاز ، ومن لم يجئ بجواز احتبس . وقرأ أبو عمر ، والمنقري ، وابن يعمر : أن جهنم ، بفتح الهمزة ، والجمهور بكسرها ( مآبا ) : مرجعا . وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، ، وزيد بن علي وابن وثاب ، ، وعمرو بن ميمون ، وعمرو بن شرحبيل وطلحة ، والأعمش وحمزة ، وقتيبة ، وسورة وروح : لبثين بغير ألف بعد اللام ، والجمهور : بألف بعدها ، وفاعل يدل على من وجد منه الفعل ، وفعل على من شأنه ذلك ، كحاذر وحذر ( أحقابا ) تقدم الكلام عليه في الكهف عند : ( أو أمضي حقبا ) والمعنى هنا : حقبا بعد حقب ، كلما مضى تبعه آخر إلى غير نهاية ، ولا يكاد يستعمل الحقب إلا حيث يراد تتابع الأزمنة ، كقول أبي تمام :
لقد أخذت من دار ماوية الحقب أنحل المغاني للبلى أم هي نهب
ويجوز أن يتعلق للطاغين ب ( مرصادا ) ، ويجوز أن يتعلق ب ( مآبا ) . ولابثين حال من الطاغين ، و ( أحقابا ) نصب على الظرف . وقال : وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب إذا أخطأ الرزق فهو حقب ، وجمعه أحقاب ، فينتصب حالا عنهم ، يعني لابثين فيها حقبين جحدين . الزمخشري
وقوله : ( لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ) تفسير له ، والاستثناء منقطع ، يعني : لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفس عنهم حر النار ، ولا شرابا يسكن من عطشهم ، ولكن يذوقون فيها ( حميما وغساقا ) انتهى . وكان قد قدم قبل هذا الوجه ما نصه : ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ، ثم يبدلون بعد الأحقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب . انتهى . وهذا [ ص: 414 ] الذي قاله هو قول للمتقدمين ، حكاه ابن عطية . قال : وقال آخرون إنما المعنى لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا ، فبهذه الحال يلبثون أحقابا ، ثم يبقى العذاب سرمدا وهم يشربون أشربة جهنم ، والذي يظهر أن قوله : ( لا يذوقون ) كلام مستأنف وليس في موضع الحال ، و ( إلا حميما ) استثناء متصل من قوله : ( ولا شرابا ) وأن ( أحقابا ) منصوب على الظرف حملا على المشهور من لغة العرب ، لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة ، وقول من قال : إن الموصوفين باللبث أحقابا هم عصاة المؤمنين ، أواخر الآي يدفعه ، وقول مقاتل : إن ذلك منسوخ بقوله : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) فاسد ، والظاهر - وهو قول الجمهور - أن البرد هو مس الهواء القر ، أي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكسر شدة الحر . وقال أبو عبيدة ، ، والكسائي والفضل بن خالد ، ومعاذ النحوي : البرد هنا النوم ، والعرب تسميه بذلك لأنه يبرد سورة العطش ، ومن كلامهم : منع البرد البرد ، وقال الشاعر :
فلو شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
النقاخ : الماء ، والبرد : النوم . وفي كتاب اللغات في القرآن أن البرد هو النوم بلغة هذيل . والذوق على هذين القولين مجاز ، وقال : البرد : الشراب البارد المستلذ ، ومنه قول ابن عباس : حسان بن ثابت
يسقون من ورد البريص عليهم بردا يصفق بالرحيق السلسل
ومنه قول الآخر :
أماني من سعدى حسان كأنما سقتك بها سعدى على ظمأ بردا
والذوق على هذا حقيقة ، والنحويون ينشدون على هذا بيت حسان ، بردى ، بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث : وهو نهر في دمشق . وتقدم شرح الحميم والغساق ، وخلف القراء في شدة الشين وخفتها ( وفاقا ) : أي لأعمالهم وكفرهم ، وصف الجزاء بالمصدر لوافق ، أو على حذف مضاف ، أي ذا وفاق . وقال الفراء : هو جمع وفق . وقرأ الجمهور بخف الفاء ، وأبو حيوة ، ، وأبو بحرية : بشدها من وفقه كذا ( وابن أبي عبلة لا يرجون ) : لا يخافون أو لا يؤمنون ، والرجاء والأمل مفترقان ، والمعنى هنا : لا يصدقون بالحساب ، فهم لا يؤمنون ولا يخافون . وقرأ الجمهور : ( كذابا ) بشد الذال مصدر كذب ، وهي لغة لبعض العرب يمانية ، يقولون في مصدر فعل فعالا ، وغيرهم يجعل مصدره على تفعيل نحو تكذيب ، ومن تلك اللغة قول الشاعر :
لقد طال ما ثبطتني عن صحابتي وعن حاجة قضاؤها من شفائيا
ومن كلام أحدهم وهو يستفتي : الحلق أحب إليك أم القصار . يريد التقصير ، يعني في الحج . وقال : وفعال في باب فعل كله فاش في كلام فصحاء من العرب لا يقولون غيره ، وسمعني بعضهم أفسر آية فقال : لقد فسرتها فسارا ما سمع بمثله . وقرأ الزمخشري علي ، ، وعوف الأعرابي وأبو رجاء ، والأعمش ، وعيسى بخلاف عنه بخف الذال . قال صاحب اللوامح علي وعيسى البصرة : ( كذابا ) كلاهما بالتخفيف ، وذلك لغة وعوف الأعرابي اليمن بأن يجعلوا مصدر كذب مخففا كذابا بالتخفيف مثل كتب كتابا ، فصار المصدر هنا من معنى الفعل دون لفظه مثل أعطيته عطاء . انتهى . وقال الأعشى :
فصدقتها وكذبتها والمرء ينفعه كذابه
وقال : هو مثل قوله : ( الزمخشري أنبتكم من الأرض نباتا ) يعني : وكذبوا بآياتنا فكذبوا كذابا ، أو تنصبه بكذبوا لا يتضمن معنى كذبوا ؛ لأن كل مكذب بالحق كاذب ، وإن جعلته بمعنى المكاذبة فمعناه : وكذبوا بآياتنا فكاذبوا مكاذبة ، أو كذبوا بها مكاذبين ؛ لأنهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين وكان [ ص: 415 ] المسلمون عندهم كاذبين فبينهم مكاذبة ، أو لأنهم يتكلمون بما هو إفراط في الكذب فعل من يغالب في أمر فيبلغ فيه أقصى جهده . انتهى . والأظهر الإعراب الأول وما سواه تكلف ، وفي كتاب ابن عطية وكتاب اللوامح : وقرأ عبد الله بن عمر بن عبد العزيز ، وفي كتاب ابن خالويه : عمر بن عبد العزيز والماجشون ، ثم اتفقوا ( كذابا ) بضم الكاف وشد الذال ، فخرج على أنه جمع كاذب وانتصب على الحال المؤكدة ، وعلى أنه مفرد صفة لمصدر ، أي تكذيبا كذابا مفرطا في التكذيب . وقرأ الجمهور : ( وكل شيء ) بالنصب ، وأبو السمال : بالرفع ، وانتصب ( كتابا ) على أنه مصدر من معنى ( أحصيناه ) أي إحصاء ، أو يكون ( أحصيناه ) في معنى كتبناه ، والتجوز إما في المصدر وإما في الفعل وذلك لالتقائهما في معنى الضبط ، أو على أنه مصدر في موضع الحال ، أو مكتوبا في اللوح وفي مصحف الحفظة ( وكل شيء ) عام مخصوص ، أي كل شيء مما يقع عليه الثواب والعقاب ، وهي جملة اعتراض معترضة ، وفذوقوا مسبب عن كفرهم بالحساب فتكذيبهم بالآيات .
وقال عبد الله بن عمر : وما نزلت في أهل النار آية أشد من هذه ، ورواه أبو بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما ذكر شيئا من حال أهل النار ذكر ما لأهل الجنة ، فقال : ( إن للمتقين مفازا ) أي موضع فوز وظفر ، حيث زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة . و ( حدائق ) بدل من ( مفازا ) وفوزا ، فيكون أبدل الجرم من المعنى على حذف ، أي فوز حدائق أي بها ( دهاقا ) قال الجمهور : مترعة . وقال مجاهد : متتابعة . وقرأ الجمهور : ( وابن جبير ولا كذابا ) بالتشديد ، أي لا يكذب بعضهم بعضا . وقرأ بالتخفيف كاللفظ الأول في قوله تعالى : ( الكسائي وكذبوا بآياتنا كذابا ) مصدر كذب ومصدر كاذب . قال : ( جزاء ) : مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله : ( الزمخشري إن للمتقين مفازا ) كأنه قال : جازى المتقين بمفاز وعطاء ، نصب بجزاء نصب المفعول به ، أي : جزاءهم عطاء . انتهى . وهذا لا يجوز لأنه جعله مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة التي هي ( إن للمتقين مفازا ) والمصدر المؤكد لا يعمل ؛ لأنه ليس ينحل بحرف مصدري والفعل ، ولا نعلم في ذلك خلافا . وقرأ الجمهور : ( حسابا ) وهو صفة لعطاء ، أي كافيا من قولهم : أحسبني الشيء : أي كفاني . وقال مجاهد : معنى حسابا هنا بتقسيط على الأعمال ، أو دخول الجنة برحمة الله والدرجات فيها على قدر الأعمال ، فالحساب هنا بموازنة الأعمال . وقرأ ابن قطيب : حسابا بفتح الحاء وشد السين . قال : بنى فعالا من أفعل ، كدراك من أدرك . انتهى . فمعناه محسبا ، أي كافيا . وقرأ ابن جني شريح بن يزيد الحمصي ، وأبو البرهسم : بكسر الحاء وشد السين ، وهو مصدر مثل كذاب أقيم مقام الصفة ، أي إعطاء محسبا ، أي كافيا ، وقرأ ابن عباس وسراح : حسنا بالنون من الحسن ، وحكى عنه المهدوي " حسبا " بفتح الحاء وسكون السين والباء ، نحو قولك : حسبك كذا ، أي كافيك .
وقرأ عبد الله ، وابن أبي إسحاق ، ، والأعمش وابن محيصن ، وابن عامر ، وعاصم : ( رب ، والرحمن ) بالجر ، ، والأعرج وأبو جعفر ، وشيبة ، وأبو عمرو والحرميان برفعهما ، والأخوان : ( رب ) بالجر ، و ( الرحمن ) بالرفع ، وهي قراءة الحسن ، وابن وثاب ، ، والأعمش وابن محيصن بخلاف عنهما في الجر على البدل من ربك ، و ( الرحمن ) صفة أو بدل من ( رب ) أو عطف بيان ، وهل يكون بدلا من ربك فيه نظر ، لأن البدل الظاهر أنه لا يتكرر فيكون كالصفات ، والرفع على إضمار ( هو رب ) ، أو على الابتداء ، وخبره ( لا يملكون ) ، والضمير في ( لا يملكون ) عائد على المشركين ، قاله عطاء عن ، أي لا يخاطب المشركون الله ، أما المؤمنون فيشفعون ويقبل الله ذلك منهم ، وقيل : عائد على المؤمنين ، أي لا يملكون أن يخاطبوه في أمر من الأمور لعلمهم أن ما يفعله عدل منه ، وقيل : عائد على أهل السماوات والأرض ، والضمير في منه عائد عليه تعالى ، والمعنى أنهم لا يملكون من الله أن يخاطبوه في شيء من الثواب [ ص: 416 ] والعقاب خطاب واحد يتصرفون فيه تصرف الملاك ، فيزيدون فيه أو ينقصون منه ، والعامل في ( يوم ) إما ( ابن عباس لا يملكون ) وإما ( لا يتكلمون ) وقد تقدم الخلاف في ( الروح ) أهو جبريل أم ملك أكبر الملائكة خلقة ؟ أو خلق على صورة بني آدم ، أو خلق حفظة على الملائكة ، أو أرواح بني آدم ، أو القرآن وقيامه ، مجاز يعني به ظهور آثاره الكائنة عن تصديقه أو تكذيبه ، والظاهر عود الضمير في ( لا يتكلمون ) على ( الروح والملائكة ) وقال : عائد على الناس ، فلا يتكلم أحد إلا بإذن منه تعالى ، ونطق بالصواب ، وقال ابن عباس عكرمة : الصواب : لا إله إلا الله ، أي قالها في الدنيا ، وقال : هما شريطتان : أن يكون المتكلم منهم مأذونا له في الكلام ، وأن يتكلم بالصواب فلا يشفع لغير مرتضى ؛ لقوله تعالى : ( الزمخشري ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) . انتهى .
( ذلك اليوم الحق ) أي كيانه ووجوده ( فمن شاء ) وعيد وتهديد ، والخطاب في ( أنذرناكم ) لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم ، واندرج فيه من يأتي بعدهم ( عذابا ) : هو عذاب الآخرة لتحقق وقوعه ، وكل آت قريب ( يوم ينظر المرء ) : عام في المؤمن والكافر ( ما قدمت يداه ) من خير أو شر لقيام الحجة له وعليه ، وقال ، وقاله قبله الزمخشري عطاء ، المرء هو الكافر لقوله : ( إنا أنذرناكم عذابا قريبا ) والكافر ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم ، ومعنى ( ما قدمت يداه ) من الشر لقوله : ( وذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم ) ، وقال ابن عباس وقتادة والحسن : المرء هنا المؤمن ، كأنه نظر إلى مقابله في قوله : ( ويقول الكافر ) وقرأ الجمهور : ( المرء ) بفتح الميم ، وابن أبي إسحاق بضمها ، وضعفها أبو حاتم ، ولا ينبغي أن تضعف لأنها لغة ، يتبعون حركة الميم لحركة الهمزة فيقولون : مرؤ ومرأ ومرء على حسب الإعراب ، وما منصوب ب ( ينظر ) ومعناه : ينتظر ما قدمت يداه ، فما موصولة ، ويجوز أن يكون ينظر من النظر ، وعلق عن الجملة فهي في موضع نصب على تقدير إسقاط الخافض ، وما استفهامية منصوبة تقدمت ، وتمنيه ذلك ، أي ترابا في الدنيا ، ولم يخلق أو في ذلك اليوم . وقال أبو هريرة : إن الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص من بعضها لبعض ، ثم يقول لها بعد ذلك : كوني ترابا ، فتعود جميعها ترابا ، فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله ، وقيل : الكافر هنا إبليس ، إذا رأى ما حصل للمؤمنين من الثواب قال : ( وعبد الله بن عمر الكافر ياليتني كنت ترابا ) كآدم الذي خلق من تراب واحتقره هو أولا ، وقيل : ( ترابا ) أي متواضعا لطاعة الله تعالى ، لا جبارا ولا متكبرا .