قوله عز وجل : ( أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ) .
الخطاب الظاهر أنه عام ، والمقصود الكفار منكرو البعث ، وقفهم على قدرته تعالى ( أشد خلقا ) أي أصعب إنشاء ( أم السماء ) فالمسئول عن هذا يجيب ولا بد ، لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثيرها ، ثم بين تعالى كيفية خلقها ( السماء رفع سمكها ) : أي جعل مقدارها بها في العلو مديدا رفيعا مقدار خمسمائة عام ، والسمك : الارتفاع الذي بين سطح السماء التي تليها وسطحها الأعلى الذي يلي ما فوقها . ( فسواها ) أي جعلها ملساء مستوية ، ليس فيها مرتفع ولا منخفض ، أو تممها وأتقن إنشاءها بحيث إنها محكمة الصنعة ( وأغطش ) : [ ص: 423 ] أي أظلم ليلها ( وأخرج ) أبرز ضوء شمسها ، كقوله تعالى : ( والشمس وضحاها ) وقولهم : وقت الضحى : الوقت الذي تشرق فيه الشمس ، وأضيف الليل والضحى إلى السماء ؛ لأن الليل ظلها ، والضحى هو نور سراجها .
( والأرض بعد ذلك ) أي بعد خلق السماء وما فعل فيها ( دحاها ) أي بسطها ، فخلق ثم السماء ثم دحا الأرض . وقرأ الجمهور : ( والأرض ) ، ( والجبال ) بنصبهما ، الأرض والحسن ، وأبو حيوة ، ، وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال : برفعهما ، وعيسى : برفع الأرض ، وأضيف الماء والمرعى إلى الأرض ؛ لأنهما يظهران منها ، والجمهور : ( متاعا ) بالنصب ، أي فعل ذلك - لكم ، : بالرفع ، أي ذلك متاع . وقال وابن أبي عبلة : فإن قلت : فهلا أدخل حرف العطف على أخرج ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون معنى ( الزمخشري دحاها ) : بسطها ومهدها للسكنى ، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها . والثاني : أن يكون ( أخرج ) حالا بإضمار قد ، كقوله : ( أو جاءوكم حصرت صدورهم ) . انتهى . وإضمار قد قول للبصريين ، ومذهب الكوفيين والأخفش : أن الماضي يقع حالا ، ولا يحتاج إلى إضمار قد ، وهو الصحيح ، ففي كلام العرب وقع ذلك كثيرا . انتهى . ( ومرعاها ) : مفعل من الرعي ، فيكون مكانا وزمانا ومصدرا ، وهو هنا مصدر يراد به اسم المفعول ، كأنه قيل : ومرعيها ، أي : النبات الذي يرعى ، وقدم الماء على المرعى ؛ لأنه سبب في وجود المرعى ، وشمل ( ومرعاها ) ما يتقوت به الآدمي والحيوان غيره ، فهو في حق الآدمي استعارة ، ولهذا قيل : دل الله سبحانه وتعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح ، لأنه من الماء .