بسم الله الرحمن الرحيم
( سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى )
( الغثاء ) مخفف الثاء ومشددها : ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش ، قال الشاعر :
كأن ظميئات المخيمر غدوة من السيل والغثاء فلكة مغزل
ورواه الفراء : " والأغثاء " على الجمع ، وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال . الحوة : سواد يضرب إلى الخضرة ، قال : ذو الرمة
لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثات وفي أنيابها شنب
وقيل : خضرة عليها سواد ، والأحوى : الظبي الذي في ظهره خطان من سواد وبياض ، قال الشاعر :
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
وفي الصحاح : الحوة : سمرة ، وقال الأعلم : لون يضرب إلى السواد ، وقال أيضا : الشديد الخضرة التي تضرب إلى السواد .
( سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ونيسرك لليسرى فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى ويتجنبها الأشقى الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ولا يحيا قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى ) .
[ ص: 458 ] هذه السورة مكية ، ولما ذكر فيما قبلها ( فلينظر الإنسان مم خلق ) كأن قائلا قال : من خلقه على هذا المثال ؟ فقيل : ( سبح اسم ربك ) . وأيضا لما قال : ( إنه لقول فصل ) قيل : هو ( سنقرئك ) أي ذلك القول الفصل .
( سبح ) نزه عن النقائص ( اسم ربك ) الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم ، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن ، فيقال له رب أو إله ، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ ، وتنزيه الذات أحرى . وقيل : الاسم هنا بمعنى المسمى . وقيل : معناه نزه اسم الله عن أن تذكره إلا وأنت خاشع . وقال : المعنى صل باسم ربك الأعلى ، كما تقول : ابدأ باسم ربك ، وحذف حرف الجر . وقيل : لما نزل ( ابن عباس فسبح باسم ربك العظيم ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سبح اسم ربك الأعلى ) قال : ( اجعلوها في سجودكم ) . وكانوا يقولون في الركوع : اللهم لك ركعت ، وفي السجود : اللهم لك سجدت . قالوا : ( الأعلى ) يصح أن يكون صفة لربك ، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوبا ، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب . ( ( اجعلوها في ركوعكم ) . فلما نزل : ( الذي خلق ) صفة لربك ، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره . لو قلت : رأيت غلام هند العاقل الحسنة ، لم يجز ، بل لا بد أن تأتي بصفة هند ، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول : رأيت غلام هند الحسنة العاقل ، فإن لم يجعل " الذي " صفة لربك ، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح ، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم .
( الذي خلق ) أي كل شيء ( فسوى ) أي لم يأت متفاوتا بل متناسبا على إحكام وإتقان دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم . وقرأ الجمهور : ( قدر ) بشد الدال ، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء . وقال : قدر لكل حيوان ما يصلحه ، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به . انتهى . وقرأ الزمخشري : ( قدر ) مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة ، وهدى عام لجميع الهدايات . وقال الكسائي الفراء : فهدى وأضل ، اكتفى بالواحدة عن الأخرى . وقال الكلبي ومقاتل : هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث . وقال مجاهد : هدى الإنسان للخير والشر ، والبهائم للمراتع . وقيل : هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص . والظاهر أن أحوى صفة لغثاء . قال : المعنى ( ابن عباس فجعله غثاء أحوى ) أي أسود ، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى . وقيل : " أحوى " حال من المرعى ، أي أحرى المرعى أحوى ، أي للسواد من شدة خضرته ونضارته لكثرة ريه ، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل ، وقال :
وغيث من الوسمي حو تلاعه تبطنته بشيظم صلتان
( سنقرئك فلا تنسى ) قال الحسن ، و قتادة ، ومالك : هذا في معنى ( لا تحرك به لسانك ) . وعده الله أن يقرئه ، وأخبره أنه لا ينسى ، وهذه آية للرسول في أنه أمي ، وحفظ الله عليه الوحي ، وأمنه من نسائه . وقيل : هذا وعد بإقراء السور ، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد ، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته ، فهو نهي عن إغفال التعاهد ، وأثبتت الألف في ( فلا تنسى ) وإن كان مجزوما بلا التي للنهي لتعديل رءوس الآي .
( إلا ما شاء الله ) الظاهر أنه استثناء مقصود ، قال الحسن وقتادة وغيرهما : مما قضى الله نسخه ، وأن ترتفع تلاوته وحكمه . وقال : إلا ما شاء الله أن ينسيك [ ص: 459 ] لتسن به ، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام : ابن عباس ( إني لأنسى وأنسى لأسن ) . وقيل : إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه ، ثم يذكرك به بعد ، كما قال عليه الصلاة والسلام ، حين سمع قراءة عباد بن بشير : . وقيل : ( ( لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا ) فلا تنسى ) أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه بنسخه إياه ، فهذا في نسخ العمل . وقال الفراء وجماعة : هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء ، وليس ثم شيء أبيح استثناؤه .
وأخذ هذا القول فقال : وقال : إلا ما شاء الله ، والغرض نفي النسيان رأسا ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سهيمي فيما أملك إلا ما شاء الله ، ولا يقصد استثناء شيء ، وهو من استعمال القلة في معنى النفي . انتهى . وقول الفراء و الزمخشري يجعل الاستثناء كلا استثناء ، وهذا لا ينبغي أن يكون في كلام الله تعالى ، بل ولا في كلام فصيح ، وكذلك القول بأن لا في ( الزمخشري فلا تنسى ) للنهي ، والألف ثابتة لأجل الفاصلة ، وهذا قول ضعيف . ومفهوم الآية في غاية الظهور ، وقد تعسفوا في فهمها . والمعنى أنه تعالى أخبر أنه سيقرئه ، وأنه لا ينسى إلا ما شاء الله ، فإنه ينساه ، إما النسخ ، وإما أن يسن ، وإما على أن يتذكر ، وهو صلى الله عليه وسلم معصوم من النسيان فيما أمر بتبليغه ، فإن وقع نسيان ، فيكون على وجه من الوجوه الثلاثة ، ومناسبة ( سنقرئك ) لما قبله : أنه لما أمره تعالى بالتسبيح ، وكان التسبيح لا يتم إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن ، وكان يتذكر في نفسه مخافة أن ينسى ، فأزال عنه ذلك وبشره بأنه تعالى يقرئه وأنه لا ينسى ، استثنى ما شاء الله أن ينسيه لمصلحة من تلك الوجوه .