[ ص: 180 ] وقرأ
عبد الله : ( وتكتمون الحق ) ، وخرج على أنها جملة في موضع الحال ، وقدره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : كاتمين ، وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ; لأن الجملة المثبتة المصدرة بمضارع ، إذا وقعت حالا لا تدخل عليها الواو ، والتقدير الإعرابي هو أن تضمر قبل المضارع هنا مبتدأ تقديره : وأنتم تكتمون الحق ، ولا يظهر تخريج هذه القراءة على الحال ; لأن الحال قيد في الجملة السابقة ، وهم قد نهوا عن لبس الحق بالباطل ، على كل حال فلا يناسب ذلك التقييد بالحال ، إلا أن تكون الحال لازمة ، وذلك أن يقال : لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوما ، ويمكن تخريج هذه القراءة على وجه آخر ، وهو أن يكون الله قد نعى عليهم كتمهم الحق مع علمهم أنه حق ، فتكون الجملة الخبرية عطفت على جملة النهي ، على من يرى جواز ذلك ، وهو
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه وجماعة ، ولا يشترط التناسب في عطف الجمل ، وكلا التخريجين تخريج شذوذ .
والحق الذي كتموه هو أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
ومجاهد ،
وقتادة ،
وأبو العالية ،
والسدي ،
ومقاتل ، أو الإسلام ، قاله
الحسن ، أو يكون الحق عاما فيندرج فيه أمر رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، والقرآن ، وما جاء به ، صلى الله عليه وسلم ، وكتمانه أنهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وأنتم تعلمون ) جملة حالية ، ومفعول ( تعلمون ) محذوف اقتصارا ، إذ المقصود : وأنتم من ذوي العلم ، فلا يناسب من كان عالما أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل ، وقد قدروا حذفه حذف اختصار ، وفيه أقاويل ستة : أحدها : وأنتم تعلمون أنه مذكور هو وصفته في التوراة ، صلى الله عليه وسلم .
الثاني : وأنتم تعلمون البعث والجزاء . الثالث : وأنتم تعلمون أنه نبي مرسل للناس قاطبة . الرابع : وأنتم تعلمون الحق من الباطل . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون ، فجعل مفعول العلم اللبس والكتم المفهومين من الفعلين السابقين ، قال : وهو أقبح ; لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه . انتهى .
فكان ما قدره هو على حذف مضاف ، أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم ، وقال
ابن عطية : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وأنتم تعلمون ) جملة في موضع الحال ، ولم يشهد تعالى لهم بعلم ، وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا . انتهى .
ومفهوم كلامه أن مفعول ( تعلمون ) هو ( الحق ) كأنه قال : ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمونه ; لأن المكتوم قد يكون حقا وغير حق فإذا كان حقا وعلم أنه حق كان كتمانه له أشد ( وأعظم ) ذنبا ; لأن العاصي على علم أعصى من الجاهل العاصي . قال
ابن عطية ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر
محمد ، صلى الله عليه وسلم ، ولم يشهد لهم بعلم على الإطلاق .
قال : ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال . انتهى . يعني أن الجملة تكون معطوفة ، وإن كانت ثبوتية على ما قبلها من جملة النهي ، وإن لم تكن مناسبة في الإخبار ، على ما قررناه من الكلام في تخريجنا لقراءة
عبد الله وتكتمون .
والأظهر من هذه الأقاويل ما قدمناه أولا ، من كون العلم حذف مفعوله حذف اقتصار ; إذ المقصود أن من كان من أهل العلم والاطلاع على ما جاءت به الرسل ، لا يصلح له لبس الحق بالباطل ولا كتمانه ، وهذه الحال وإن كان ظاهرها أنها قيد في النهي عن اللبس والكتم ، فلا تدل بمفهومها على جواز اللبس والكتم حالة الجهل ; لأن الجاهل بحال الشيء لا يدري كونه حقا أو باطلا ، وإنما فائدتها : أن الإقدام على الأشياء القبيحة مع العلم بها أفحش من الإقدام عليها مع الجهل بها .
وقال
القشيري : لا تتوهموا أن يلتئم لكم جمع الضدين والكون في حالة واحدة في محلين ، فإما مبسوطة بحق ، وإما مربوطة بحط ، ولا تلبسوا الحق بالباطل ، تدليس ، وتكتموا الحق تلبيس ، وأنتم تعلمون أن حق الحق تقديس . انتهى .
وفي هذه الآية دليل أن
nindex.php?page=treesubj&link=27962العالم بالحق يجب عليه إظهاره ، ويحرم عليه كتمانه . وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة : تقدم الكلام على مثل هذا في أول السورة في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=71ويقيمون [ ص: 181 ] الصلاة ويؤتون الزكاة ، ويعني بذلك صلاة المسلمين وزكاتهم ، فقيل : هي الصلاة المفروضة ، وقيل : جنس الصلاة والزكاة ، قيل : أراد المفروضة ، وقيل : صدقة الفطر ، وهو خطاب
لليهود ، فدل ذلك على أن
nindex.php?page=treesubj&link=20708الكفار مخاطبون بفروع الشريعة . قال
القشيري : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43وأقيموا الصلاة ) : احفظوا أدب الحضرة ، فحفظ الأدب للخدمة من الخدمة ، وآتوا الزكاة ، زكاة الهمم ، كما تؤدى زكاة النعم ، قال قائلهم :
كل شيء له زكاة تؤدى وزكاة الجمال رحمة مثلي
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43nindex.php?page=treesubj&link=28973واركعوا مع الراكعين ) خطاب
لليهود ، ويحتمل أن يراد بالركوع : الانقياد والخضوع ، ويحتمل أن يراد به : الركوع المعروف في الصلاة ، وأمروا بذلك وإن كان الركوع مندرجا في الصلاة التي أمروا بإقامتها ; لأنه ركوع في صلاتهم ، فنبه بالأمر به ، على أن ذلك مطلوب في صلاة المسلمين ، وقيل : كنى بالركوع عن الصلاة : أي وصلوا مع المصلين ، كما يكنى عنها بالسجدة تسمية للكل بالجزء ، ويكون في قوله ( مع ) دلالة على إيقاعها في جماعة ; لأن الأمر بإقامة الصلاة أولا لم يكن فيها إيقاعها في جماعة . والراكعون : قيل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه ، وقيل : أراد الجنس من الراكعين .
وفي هذه الجمل ، وإن كانت معطوفات بالواو ، التي لا تقتضي في الوضع ترتيبا ، ترتيب عجيب ، من حيث الفصاحة وبناء الكلام بعضه على بعض ; وذلك أنه تعالى أمرهم أولا بذكر النعمة التي أنعمها عليهم ، إذ في ذلك ما يدعو إلى محبة المنعم ووجوب إطاعته ، ثم أمرهم بإيفاء العهد الذي التزموه للمنعم ، ثم رغبهم بترتيب إيفائه هو تعالى بعهدهم في الإيفاء بالعهد ، ثم أمرهم بالخوف من نقماته إن لم يوفوا ، فاكتنف الأمر بالإيفاء أمر بذكر النعمة والإحسان ، وأمر بالخوف من العصيان ، ثم أعقب ذلك بالأمر بإيمان خاص ، وهو ما أنزل من القرآن ، ورغب في ذلك بأنه مصدق لما معهم ، فليس أمرا مخالفا لما في أيديهم ; لأن الانتقال إلى الموافق أقرب من الانتقال إلى المخالف ، ثم نهاهم عن استبدال الخسيس بالنفيس ، ثم أمرهم تعالى باتقائه ، ثم أعقب ذلك بالنهي عن لبس الحق بالباطل ، وعن كتمان الحق ، فكان الأمر بالإيمان أمرا بترك الضلال ، والنهي عن لبس الحق بالباطل وكتمان الحق تركا للإضلال .
ولما كان الضلال ناشئا عن أمرين : إما تمويه الباطل حقا إن كانت الدلائل قد بلغت المستتبع ، وإما عن كتمان الدلائل إن كانت لم تبلغه ، أشار إلى الأمرين بلا تلبسوا وتكتموا ، ثم قبح عليهم هذين الوصفين مع وجود العلم ، ثم أمرهم بعد تحصيل الإيمان وإظهار الحق بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، إذ الصلاة آكد العبادات البدنية ، والزكاة آكد العبادات المالية ، ثم ختم ذلك بالأمر بالانقياد والخضوع له تعالى مع جملة الخاضعين الطائعين .
فكان افتتاح هذه الآيات بذكر النعم واختتامها بالانقياد للمنعم ، وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية . وبنحو ما تضمنته هذه الآيات من الافتتاح والإرداف والاختتام يظهر فضل كلام الله على سائر الكلام ، وهذه الأوامر والنواهي ، وإن كانت خاصة في الصورة
ببني إسرائيل ؛ فإنهم هم المخاطبون بها ، هي عامة في المعنى ، فيجب على كل مكلف ذكر نعمة الله ، والإيفاء بالعهد وسائر التكاليف المذكورة بعد هذا .
[ ص: 180 ] وَقَرَأَ
عَبْدُ اللَّهِ : ( وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ ) ، وَخُرِّجَ عَلَى أَنَّهَا جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ، وَقَدَّرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : كَاتِمِينَ ، وَهُوَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ ; لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُثْبَتَةَ الْمُصَدَّرَةَ بِمُضَارِعٍ ، إِذَا وَقَعَتْ حَالًا لَا تَدْخُلُ عَلَيْهَا الْوَاوُ ، وَالتَّقْدِيرُ الْإِعْرَابِيُّ هُوَ أَنْ تُضْمِرَ قَبْلَ الْمُضَارِعِ هُنَا مُبْتَدَأً تَقْدِيرُهُ : وَأَنْتُمْ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ ، وَلَا يَظْهَرُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْحَالِ ; لِأَنَّ الْحَالَ قَيْدٌ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ ، وَهُمْ قَدْ نُهُوا عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ، عَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يُنَاسِبُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالْحَالِ ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَالُ لَازِمَةً ، وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : لَا يَقَعُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ إِلَّا وَيَكُونُ الْحَقُّ مَكْتُومًا ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ نَعَى عَلَيْهِمْ كَتْمَهُمُ الْحَقَّ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ حَقٌّ ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الْخَبَرِيَّةُ عُطِفَتْ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ ، عَلَى مَنْ يَرَى جَوَازَ ذَلِكَ ، وَهُوَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ وَجَمَاعَةٌ ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّنَاسُبُ فِي عَطْفِ الْجُمَلِ ، وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ تَخْرِيجُ شُذُوذٍ .
وَالْحَقُّ الَّذِي كَتَمُوهُ هُوَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ ،
وَمُجَاهِدٌ ،
وَقَتَادَةُ ،
وَأَبُو الْعَالِيَةِ ،
وَالسُّدِّيُّ ،
وَمُقَاتِلٌ ، أَوِ الْإِسْلَامُ ، قَالَهُ
الْحَسَنُ ، أَوْ يَكُونُ الْحَقُّ عَامًّا فَيَنْدَرِجُ فِيهِ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْقُرْآنُ ، وَمَا جَاءَ بِهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكِتْمَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَيُظْهِرُونَ خِلَافَهُ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ ، وَمَفْعُولُ ( تَعْلَمُونَ ) مَحْذُوفٌ اقْتِصَارًا ، إِذِ الْمَقْصُودُ : وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوِي الْعِلْمِ ، فَلَا يُنَاسِبُ مَنْ كَانَ عَالِمًا أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ وَيُلْبِسَهُ بِالْبَاطِلِ ، وَقَدْ قَدَّرُوا حَذْفَهُ حَذْفَ اخْتِصَارٍ ، وَفِيهِ أَقَاوِيلُ سِتَّةٌ : أَحَدُهَا : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ هُوَ وَصِفَتُهُ فِي التَّوْرَاةِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الثَّانِي : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ . الثَّالِثُ : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ لِلنَّاسِ قَاطِبَةً . الرَّابِعُ : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ فِي حَالِ عِلْمِكُمْ أَنَّكُمْ لَابِسُونَ كَاتِمُونَ ، فَجَعَلَ مَفْعُولَ الْعِلْمِ اللَّبْسَ وَالْكَتْمَ الْمَفْهُومَيْنِ مِنَ الْفِعْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ ، قَالَ : وَهُوَ أَقْبَحُ ; لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالْقَبِيحِ رُبَّمَا عُذِرَ رَاكِبُهُ . انْتَهَى .
فَكَانَ مَا قَدَّرَهُ هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قُبْحَ أَوْ تَحْرِيمَ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ ، وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=42وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ، وَلَمْ يَشْهَدْ تَعَالَى لَهُمْ بِعِلْمٍ ، وَإِنَّمَا نَهَاهُمْ عَنْ كِتْمَانِ مَا عَلِمُوا . انْتَهَى .
وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ مَفْعُولَ ( تَعْلَمُونَ ) هُوَ ( الْحَقَّ ) كَأَنَّهُ قَالَ : وَلَا تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَهُ ; لِأَنَّ الْمَكْتُومَ قَدْ يَكُونُ حَقًّا وَغَيْرَ حَقٍّ فَإِذَا كَانَ حَقًّا وَعَلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ كَانَ كِتْمَانُهُ لَهُ أَشَدَّ ( وَأَعْظَمَ ) ذَنْبًا ; لِأَنَّ الْعَاصِيَ عَلَى عِلْمٍ أَعْصَى مِنَ الْجَاهِلِ الْعَاصِي . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ بِعِلْمِ حَقٍّ مَخْصُوصٍ فِي أَمْرِ
مُحَمَّدٍ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَشْهَدْ لَهُمْ بِعِلْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ .
قَالَ : وَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ . انْتَهَى . يَعْنِي أَنَّ الْجُمْلَةَ تَكُونُ مَعْطُوفَةً ، وَإِنْ كَانَتْ ثُبُوتِيَّةً عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ جُمْلَةِ النَّهْيِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُنَاسِبَةً فِي الْإِخْبَارِ ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي تَخْرِيجِنَا لِقِرَاءَةِ
عَبْدِ اللَّهِ وَتَكْتُمُونَ .
وَالْأَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلًا ، مِنْ كَوْنِ الْعِلْمِ حُذِفَ مَفْعُولُهُ حَذْفَ اقْتِصَارٍ ; إِذِ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ ، لَا يَصْلُحُ لَهُ لَبْسُ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَلَا كِتْمَانُهُ ، وَهَذِهِ الْحَالُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهَا أَنَّهَا قَيْدٌ فِي النَّهْيِ عَنِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ ، فَلَا تَدُلُّ بِمَفْهُومِهَا عَلَى جَوَازِ اللَّبْسِ وَالْكَتْمِ حَالَةَ الْجَهْلِ ; لِأَنَّ الْجَاهِلَ بِحَالِ الشَّيْءِ لَا يَدْرِي كَوْنَهُ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا ، وَإِنَّمَا فَائِدَتُهَا : أَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْقَبِيحَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا أَفْحَشُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهَا مَعَ الْجَهْلِ بِهَا .
وَقَالَ
الْقُشَيْرِيُّ : لَا تَتَوَهَّمُوا أَنْ يَلْتَئِمَ لَكُمْ جَمْعُ الضِّدَّيْنِ وَالْكَوْنُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَحَلَّيْنِ ، فَإِمَّا مَبْسُوطَةٌ بِحَقٍّ ، وَإِمَّا مَرْبُوطَةٌ بِحَطٍّ ، وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ ، تَدْلِيسٌ ، وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ تَلْبِيسٌ ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ حَقَّ الْحَقِّ تَقْدِيسٌ . انْتَهَى .
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=27962الْعَالِمَ بِالْحَقِّ يَجِبُ عَلَيْهِ إِظْهَارُهُ ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كِتْمَانُهُ . وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ : تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلِ هَذَا فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=71وَيُقِيمُونَ [ ص: 181 ] الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ، وَيَعْنِي بِذَلِكَ صَلَاةَ الْمُسْلِمِينَ وَزَكَاتَهُمْ ، فَقِيلَ : هِيَ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ ، وَقِيلَ : جِنْسُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ ، قِيلَ : أَرَادَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَقِيلَ : صَدَقَةُ الْفِطْرِ ، وَهُوَ خِطَابٌ
لِلْيَهُودِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=20708الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ . قَالَ
الْقُشَيْرِيُّ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) : احْفَظُوا أَدَبَ الْحَضْرَةِ ، فَحِفْظُ الْأَدَبِ لِلْخِدْمَةِ مِنَ الْخِدْمَةِ ، وَآتُوا الزَّكَاةَ ، زَكَاةَ الْهِمَمِ ، كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النِّعَمِ ، قَالَ قَائِلُهُمْ :
كُلُّ شَيْءٍ لَهُ زَكَاةٌ تُؤَدَّى وَزَكَاةُ الْجَمَالِ رَحْمَةُ مِثْلِي
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=43nindex.php?page=treesubj&link=28973وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) خِطَابٌ
لِلْيَهُودِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرُّكُوعِ : الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ : الرُّكُوعُ الْمَعْرُوفُ فِي الصَّلَاةِ ، وَأُمِرُوا بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوعُ مُنْدَرِجًا فِي الصَّلَاةِ الَّتِي أُمِرُوا بِإِقَامَتِهَا ; لِأَنَّهُ رُكُوعٌ فِي صَلَاتِهِمْ ، فَنَبَّهَ بِالْأَمْرِ بِهِ ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَطْلُوبٌ فِي صَلَاةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقِيلَ : كَنَى بِالرُّكُوعِ عَنِ الصَّلَاةِ : أَيْ وَصَلُّوا مَعَ الْمُصَلِّينَ ، كَمَا يُكْنَى عَنْهَا بِالسَّجْدَةِ تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِالْجُزْءِ ، وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ ( مَعَ ) دَلَالَةٌ عَلَى إِيقَاعِهَا فِي جَمَاعَةٍ ; لِأَنَّ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَوَّلًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِيقَاعُهَا فِي جَمَاعَةٍ . وَالرَّاكِعُونَ : قِيلَ النَّبِيُّ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَقِيلَ : أَرَادَ الْجِنْسَ مِنَ الرَّاكِعِينَ .
وَفِي هَذِهِ الْجُمَلِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْطُوفَاتٍ بِالْوَاوِ ، الَّتِي لَا تَقْتَضِي فِي الْوَضْعِ تَرْتِيبًا ، تَرْتِيبٌ عَجِيبٌ ، مِنْ حَيْثُ الْفَصَاحَةِ وَبِنَاءِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِذِكْرِ النِّعْمَةِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عَلَيْهِمْ ، إِذْ فِي ذَلِكَ مَا يَدْعُو إِلَى مَحَبَّةِ الْمُنْعِمِ وَوُجُوبِ إِطَاعَتِهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِإِيفَاءِ الْعَهْدِ الَّذِي الْتَزَمُوهُ لِلْمُنْعِمِ ، ثُمَّ رَغَّبَهُمْ بِتَرْتِيبِ إِيفَائِهِ هُوَ تَعَالَى بِعَهْدِهِمْ فِي الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْخَوْفِ مِنْ نِقْمَاتِهِ إِنْ لَمْ يُوفُوا ، فَاكْتَنَفَ الْأَمْرَ بِالْإِيفَاءِ أَمْرٌ بِذِكْرِ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ، وَأَمْرٌ بِالْخَوْفِ مِنَ الْعِصْيَانِ ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِإِيمَانٍ خَاصٍّ ، وَهُوَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَرَغَّبَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ ، فَلَيْسَ أَمْرًا مُخَالِفًا لِمَا فِي أَيْدِيهِمْ ; لِأَنَّ الِانْتِقَالَ إِلَى الْمُوَافِقِ أَقْرَبُ مِنَ الِانْتِقَالِ إِلَى الْمُخَالِفِ ، ثُمَّ نَهَاهُمْ عَنِ اسْتِبْدَالِ الْخَسِيسِ بِالنَّفِيسِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِاتِّقَائِهِ ، ثُمَّ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ ، وَعَنْ كِتْمَانِ الْحَقِّ ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ أَمْرًا بِتَرْكِ الضَّلَالِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ لَبْسِ الْحَقِّ بِالْبَاطِلِ وَكِتْمَانِ الْحَقِّ تَرْكًا لِلْإِضْلَالِ .
وَلَمَّا كَانَ الضَّلَالُ نَاشِئًا عَنْ أَمْرَيْنِ : إِمَّا تَمْوِيهُ الْبَاطِلِ حَقًّا إِنْ كَانَتِ الدَّلَائِلُ قَدْ بَلَغَتِ الْمُسْتَتْبِعَ ، وَإِمَّا عَنْ كِتْمَانِ الدَّلَائِلِ إِنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْهُ ، أَشَارَ إِلَى الْأَمْرَيْنِ بِلَا تَلْبِسُوا وَتَكْتُمُوا ، ثُمَّ قَبَّحَ عَلَيْهِمْ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ مَعَ وُجُودِ الْعِلْمِ ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ وَإِظْهَارِ الْحَقِّ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، إِذِ الصَّلَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ ، وَالزَّكَاةُ آكَدُ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ ، ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ وَالْخُضُوعِ لَهُ تَعَالَى مَعَ جُمْلَةِ الْخَاضِعِينَ الطَّائِعِينَ .
فَكَانَ افْتِتَاحُ هَذِهِ الْآيَاتِ بِذِكْرِ النِّعَمِ وَاخْتِتَامُهَا بِالِانْقِيَادِ لِلْمُنْعِمِ ، وَمَا بَيْنَهُمَا تَكَالِيفٌ اعْتِقَادِيَّةٌ وَأَفْعَالٌ بَدَنِيَّةٌ وَمَالِيَّةٌ . وَبِنَحْوِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنَ الِافْتِتَاحِ وَالْإِرْدَافِ وَالِاخْتِتَامِ يَظْهَرُ فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ ، وَهَذِهِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي ، وَإِنْ كَانَتْ خَاصَّةً فِي الصُّورَةِ
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ؛ فَإِنَّهُمْ هُمُ الْمُخَاطَبُونَ بِهَا ، هِيَ عَامَّةٌ فِي الْمَعْنَى ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ ذِكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ ، وَالْإِيفَاءُ بِالْعَهْدِ وَسَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا .