وقد بين تعالى في مواضع أخر : أن الأمثال مع إيضاحها للحق يهدي بها الله قوما ، ويضل بها قوما آخرين ، كما في قوله تعالى : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين [ 2 \ 26 ] ، وأشار إلى هذا المعنى في سورة " الرعد " ; لأنه لما ضرب المثل بقوله : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال [ 13 \ 17 ] ، أتبع ذلك بقوله : للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد [ 13 \ 18 ] ، ولا شك أن الذين [ ص: 301 ] استجابوا لربهم هم العقلاء الذين عقلوا معنى الأمثال ، وانتفعوا بما تضمنت من بيان الحق ، وأن الذين لم يستجيبوا له هم الذين لم يعقلوها ، ولم يعرفوا ما أوضحته من الحقائق ، فالفريق الأول هم الذين قال الله فيهم ويهدي به كثيرا [ 2 \ 26 ] ، والفريق الثاني هم الذين قال فيهم يضل به كثيرا وقال فيهم وما يضل به إلا الفاسقين .
وقولـه في هذه الآية الكريمة : ولقد صرفنا قال بعض العلماء : مفعول " صرفنا " محذوف ، تقديره : البينات والعبر ، وعلى هذا فـ " من " لابتداء الغاية ، أي : ولقد صرفنا الآيات والعبر من أنواع ، فقابلوا ذلك بالجدال والخصام ، ولذا قال : ضرب المثل للناس في هذا القرآن ليذكروا وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 45 ] ، وهذا هو الذي استظهره أبو حيان في البحر ، ثم قال : وقال ابن عطية يجوز أن تكون " من " زائدة للتوكيد ، فالتقدير : ولقد صرفنا كل مثل ، فيكون مفعول " صرفنا " : " كل مثل " وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش ، لا على مذهب جمهور البصريين ، انتهى الغرض من كلام صاحب البحر المحيط ، وقال : " من كل مثل " من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه ا هـ ، وضابط ضرب المثل الذي يرجع إليه كل معانيه التي يفسر بها : هو إيضاح معنى النظير بذكر نظيره ; لأن النظير يعرف بنظيره ، وهذا المعنى الذي ذكره في هذه الآية الكريمة جاء مذكورا في آيات أخر ، كقوله في " الإسراء " : الزمخشري ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا [ 17 \ 89 ] ، وقولـه تعالى : ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا [ 17 \ 41 ] ، وقولـه : وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا [ 20 \ 113 ] ، وقولـه : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرءانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون [ 39 \ 27 - 28 ] ، وقولـه : ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون [ 30 \ 58 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
وقولـه في هذه الآية : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] أي : أكثر الأشياء التي من شأنها الخصومة إن فصلتها واحدا بعد واحد " جدلا " أي : خصومة ومماراة بالباطل لقصد إدحاض الحق .
ومن الآيات الدالة على خصومة الإنسان بالباطل لإدحاض الحق قوله هنا ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق [ 18 \ 56 ] ، [ ص: 302 ] وقولـه تعالى : والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم الآية [ 42 \ 16 ] وقولـه تعالى : أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] وقولـه تعالى : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وما فسرنا به قوله تعالى : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا من أن معناه كثرة خصومة الكفار ومماراتهم بالباطل ليدحضوا به الحق هو السياق الذي نزلت فيه الآية الكريمة ; لأن قوله : ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل [ 17 \ 89 ] ، أي : ليذكروا ويتعظوا وينيبوا إلى ربهم : بدليل قوله : ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا [ 17 \ 41 ] وقولـه : وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون [ 59 \ 21 ] ، فلما أتبع ذلك بقوله : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا [ 18 \ 54 ] ، علمنا من سياق الآية أن الكفار أكثروا الجدل والخصومة والمراء لإدحاض الحق الذي أوضحه الله بما ضربه في هذا القرآن من كل مثل ، ولكن كون هذا هو ظاهر القرآن وسبب النزول لا ينافي تفسير الآية الكريمة بظاهر عمومها ; لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما بيناه بأدلته فيما مضى ، ولأجل هذا لما عليا وفاطمة رضي الله عنهما ليلة فقال : " ألا تصليان " ؟ وقال علي رضي الله عنه : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، انصرف النبي صلى الله عليه وسلم راجعا وهو يضرب فخذه ويقول : وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ، والحديث مشهور متفق عليه ، فإيراده صلى الله عليه وسلم الآية على قول طرق النبي صلى الله عليه وسلم علي رضي الله عنه " إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا " دليل على عموم الآية الكريمة ، وشمولها لكل خصام وجدل ، لكنه قد دلت آيات أخر على أن من الجدل ما هو محمود مأمور به لإظهار الحق ، كقوله تعالى : وجادلهم بالتي هي أحسن [ 16 \ 125 ] ، وقولـه تعالى : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن [ 29 \ 46 ] ، وقولـه " جدلا " منصوب على التمييز ، على حد قوله في الخلاصة :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا
وقولـه : أكثر شيء جدلا أي : أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل جدلا كما تقدم ، وصيغة التفضيل إذا أضيفت إلى نكرة كما في هذه الآية ، أو جردت من الإضافة والتعريف بالألف واللام لزم إفرادها وتذكيرها كما عقده في الخلاصة بقوله :[ ص: 303 ]
وإن لمنكور يضف أو جردا ألزم تذكيرا وأن يوحدا