الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الفرع السادس : اعلم أن أصح الأقوال وأظهرها دليلا : أن دية الكافر الذمي على النصف من دية المسلم ، كما قدمنا عن أبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أن دية أهل الكتاب كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصف من دية المسلمين ، وأن عمر لم يرفعها فيما رفع عند تقويمه الدية لما غلت الإبل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو داود أيضا في سننه : حدثنا يزيد بن خالد بن موهب الرملي ، ثنا عيسى بن يونس ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " دية المعاهد نصف دية الحر " . قال أبو داود : ورواه أسامة بن زيد الليثي ، [ ص: 116 ] وعبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب مثله اه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النسائي في سننه : أخبرنا عمرو بن علي قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن راشد ، عن سليمان بن موسى . . - وذكر كلمة معناها - عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين وهم اليهود والنصارى " أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح ، قال : أنبأنا ابن وهب ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عقل الكافر نصف عقل المؤمن " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن ماجه رحمه الله في سننه : حدثنا هشام بن عمار ، ثنا حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن عياش ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين ، وهم اليهود والنصارى " . وأخرج نحوه الإمام أحمد ، والترمذي ، عن عمرو ، عن أبيه ، عن جده .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشوكاني في " نيل الأوطار " : وحديث عمرو بن شعيب هذا حسنه الترمذي ، وصححه ابن الجارود . وبهذا تعلم أن هذا القول أولى من قول من قال : دية أهل الذمة كدية المسلمين ; كأبي حنيفة ومن وافقه . ومن قال : إنها قدر ثلث دية المسلم . كالشافعي ومن وافقه . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أن الروايات التي جاءت بأن دية الذمي والمعاهد كدية المسلم ضعيفة لا يحتج بها ، وقد بين البيهقي رحمه الله تعالى ضعفها في " السنن الكبرى " ، وقد حاول ابن التركماني رحمه الله في حاشيته على سنن البيهقي أن يجعل تلك الروايات صالحة للاحتجاج ، وهي ليس فيها شيء صحيح .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الاستدلال بظاهر قوله تعالى : ودية مسلمة إلى أهله [ 4 \ 92 ] ، فيقال فيه : هذه دلالة اقتران ، وهي غير معتبرة عند الجمهور ، وغاية ما في الباب : أن الآية لم تبين قدر دية المسلم ولا الكافر ، والسنة بينت أن دية الكافر على النصف من دية المسلم ، وهذا لا إشكال فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      أما استواؤهما في قدر الكفارة فلا دليل فيه على الدية ، لأنها مسألة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                      والأدلة التي ذكرنا دلالتها أنها على النصف من دية المسلم أقوى ، ويؤيدها : أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : " وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل " فمفهوم [ ص: 117 ] قوله " المؤمنة " أن النفس الكافرة ليست كذلك ، على أن المخالف في هذه الإمام أبو حنيفة رحمه الله ، والمقرر في أصوله : أنه لا يعتبر دليل الخطاب أعني مفهوم المخالفة كما هو معلوم عنه . ولا يقول بحمل المطلق على المقيد ، فيستدل بإطلاق النفس عن قيد الإيمان في الأدلة الأخرى على شمولها للكافر ، والقول بالفرق بين الكافر المقتول عمدا فتكون ديته كدية المسلم ، وبين المقتول خطأ فتكون على النصف من دية المسلم ، لا نعلم له مستندا من كتاب ولا سنة ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما دية المجوسي : فأكثر أهل العلم على أنها ثلث خمس دية المسلم ; فهي ثمانمائة درهم ، ونساؤهم على النصف من ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأكثر أهل العلم ; منهم عمر وعثمان ، وابن مسعود رضي الله عنهم ، وسعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، وإسحاق .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن عمر بن عبد العزيز ، أنه قال : ديته نصف دية المسلم كدية الكتابي .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال النخعي ، والشعبي : ديته كدية المسلم ، وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      والاستدلال على أن دية المجوسي كدية الكتابي بحديث : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " لا يتجه ، لأنا لو فرضنا صلاحية الحديث للاحتجاج ، فالمراد به أخذ الجزية منهم فقط ، بدليل أن نساءهم لا تحل ، وذبائحهم لا تؤكل اه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن قدامة في " المغني " : إن قول من ذكرنا من الصحابة : إن دية المجوسي ثلث خمس دية المسلم ، لم يخالفهم فيه أحد من الصحابة فصار إجماعا سكوتيا . وقد قدمنا قول من قال : إنه حجة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعض أهل العلم : دية المرتد إن قتل قبل الاستتابة كدية المجوسي ، وهو مذهب مالك . وأما الحربيون فلا دية لهم مطلقا . والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية