الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      الفرع السابع : اعلم أن العلماء اختلفوا في موجب التغليظ في الدية ، وبم تغلظ ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنها تغلظ بثلاثة أشياء : وهي القتل في الحرم ، وكون المقتول محرما بحج أو عمرة ، أو في الأشهر الحرم ; فتغلظ الدية في كل واحد منها بزيادة ثلثها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 118 ] فمن قتل محرما فعليه دية وثلث ، ومن قتل محرما في الحرم فدية وثلثان ، ومن قتل محرما في الحرم في الشهر الحرام فديتان .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا مذهب الإمام أحمد رحمه الله ، وروي نحوه عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس رضي الله عنهم ; نقله عنهم البيهقي وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن روى عنه هذا القول : سعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وطاوس ، والشعبي ، ومجاهد ، وسليمان بن يسار ، وجابر بن زيد ، وقتادة ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وغيرهم ; كما نقله عنهم صاحب المغني .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أصحاب الشافعي رحمه الله : تغلظ الدية بالحرم ، والأشهر الحرم ، وذي الرحم المحرم ، وفي تغليظها بالإحرام عنهم وجهان .

                                                                                                                                                                                                                                      وصفة التغليظ عند الشافعي : هي أن تجعل دية العمد في الخطأ ، ولا تغلظ الدية عند مالك رحمه الله في قتل الوالد ولده قتلا شبه عمد ; كما فعل المدلجي بأبيه ، والجد والأم عنده كالأب .

                                                                                                                                                                                                                                      وتغليظها عنده : هو تثليثها بكونها ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة في بطونها أولادها ، لا يبالي من أي الأسنان كانت ، ولا يرث الأب عنده في هذه الصورة من دية الولد ولا من ماله شيئا .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر الأدلة أن القاتل لا يرث مطلقا من دية ولا غيرها ، سواء كان القتل عمدا أو خطأ .

                                                                                                                                                                                                                                      وفرق المالكية في الخطأ بين الدية وغيرها ، فمنعوا ميراثه من الدية دون غيرها من مال التركة . والإطلاق أظهر من هذا التفصيل ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقصة المدلجي : هي ما رواه مالك في الموطأ ، عن يحيى بن سعيد ، عن عمرو بن شعيب : أن رجلا من بني مدلج يقال له " قتادة " حذف ابنه بالسيف ; فأصاب ساقه فنزى في جرحه فمات ، فقدم سراقة بن جعشم على عمر بن الخطاب ، فذكر ذلك له ، فقال له عمر : أعدد على ماء قديد عشرين ومائة بعير حتى أقدم عليك ، فلما قدم إليه عمر بن الخطاب أخذ من تلك الإبل ثلاثين حقة ، وثلاثين جذعة ، وأربعين خلفة ، وقال : أين أخو المقتول ؟ قال : هاأنذا . قال : خذها ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس لقاتل شيء " .

                                                                                                                                                                                                                                      الفرع الثامن : اعلم أن دية المقتول ميراث بين ورثته ; كسائر ما خلفه من تركته .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 119 ] ومن الأدلة الدالة على ذلك ، ما روي عن سعيد بن المسيب : أن عمر رضي الله عنه قال : الدية للعاقلة ، لا ترث المرأة من دية زوجها ، حتى أخبره الضحاك بن سفيان الكلابي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها . رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي وصححه . ورواه مالك في الموطأ من رواية ابن شهاب عن عمر ، وزاد : قال ابن شهاب : وكان قتلهم أشيم خطأ . وما روي عن الضحاك بن سفيان رضي الله عنه . روي نحوه عن المغيرة بن شعبة وزرارة بن جري . كما ذكره الزرقاني في شرح الموطأ .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده : أن النبي صلى الله عليه وسلم " قضى أن العقل ميراث بين ورثة القتيل على فرائضهم " رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وقد قدمنا نص هذا الحديث عند النسائي في حديث طويل .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا الحديث قواه ابن عبد البر ، وأعله النسائي ; قاله الشوكاني . وهو معتضد بما تقدم وبما يأتي ، وبإجماع الحجة من أهل العلم على مقتضاه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها ما رواه البخاري في تاريخه عن قرة بن دعموص النميري قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي ، فقلت : يا رسول الله ، عند هذا دية أبي فمره يعطنيها . وكان قتل في الجاهلية ، فقال : " أعطه دية أبيه " فقلت : هل لأمي فيها حق ؟ قال : " نعم " ، وكانت ديته مائة من الإبل .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ساقه البخاري في التاريخ هكذا : قال قيس بن حفص : أنا الفضيل بن سليمان النميري قال : أنا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري قال : حدثني قرة بن دعموص ، قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أنا وعمي - إلى آخر الحديث باللفظ الذي ذكرنا - وسكت عليه البخاري رحمه الله ، ورجال إسناده صالحون للاحتجاج ، إلا عائذ بن ربيعة بن قيس النميري فلم نر من جرحه ولا من عدله .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر له البخاري في تاريخه ، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ترجمة ، وذكرا أنه سمع قرة بن دعموص ، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلا .

                                                                                                                                                                                                                                      وظاهر هذه الأدلة يقتضي أن دية المقتول تقسم كسائر تركته على فرائض الله ، وهو الظاهر ; سواء كان القتل عمدا أو خطأ ، ولا يخلو ذلك من خلاف .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي عن علي رضي الله عنه أنها ميراث كقول الجمهور ، وعنه رواية أخرى : أن [ ص: 120 ] الدية لا يرثها إلا العصبة الذين يعقلون عنه ، وكان هذا هو رأي عمر ، وقد رجع عنه لما أخبره الضحاك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياه : أن يورث زوجة أشيم المذكور من دية زوجها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو ثور : هي ميراث ، ولكنها لا تقضي منها ديونه ، ولا تنفذ منها وصاياه . وعن أحمد رواية بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن قدامة في " المغني " : وقد ذكر الخرقي فيمن أوصى بثلث ماله لرجل فقتل وأخذت ديته ; فللموصى له بالثلث ثلث الدية ، في إحدى الروايتين .

                                                                                                                                                                                                                                      والأخرى : ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء .

                                                                                                                                                                                                                                      ومبنى هذا : على أن الدية ملك للميت ، أو على ملك الورثة ابتداء ، وفيه روايتان : إحداهما أنها تحدث على ملك الميت ، لأنها بدل نفسه ، فيكون بدلها له كدية أطرافه المقطوعة منه في الحياة ، ولأنه لو أسقطها عن القاتل بعد جرحه إياه كان صحيحا وليس له إسقاط حق الورثة ، ولأنها مال موروث فأشبهت سائر أمواله . والأخرى أنها تحدث على ملك الورثة ابتداء ; لأنها إنما تستحق بعد الموت وبالموت تزول أملاك الميت الثابتة له ، ويخرج عن أن يكون أهلا لذلك ، وإنما يثبت الملك لورثته ابتداء ، ولا أعلم خلافا في أن الميت يجهز منها . اه محل الغرض من كلام ابن قدامة رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                      قال مقيده عفا الله عنه : أظهر القولين عندي : أنه يقرر ملك الميت لديته عند موته فتورث كسائر أملاكه ; لتصريح النبي صلى الله عليه وسلم للضحاك في الحديث المذكور بتوريث امرأة أشيم الضبابي من ديته ، والميراث لا يطلق شرعا إلا على ما كان مملوكا للميت ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية