في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم ، وكلاهما تدل على مقتضاه آيات من كتاب الله تعالى ، وأحد الوجهين أظهر عندي من الآخر .
الأول منهما أن معنى الآية : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إذ جاءتهم الرسل بالبينات الواضحات ، إلا ما سبق في علمنا : من أنهم لا يؤمنون ، بل يستمرون على كفرهم حتى تأتيهم سنة الأولين من الكفار ، وإتيان العذاب إياهم يوم القيامة قبلا ، وعلى هذا القول فالآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا ، كقوله تعالى : إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم [ 10 \ 96 - 97 ] وقولـه : وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون [ 10 \ 101 ] ، وقولـه تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين [ 16 \ 37 ] [ ص: 304 ] وكقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] ، والآيات في مثل هذا المعنى كثيرة .
القول الثاني : أن في الآية الكريمة مضافا محذوفا ، تقديره : وما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلبهم أن تأتيهم سنة الأولين ، أو يأتيهم العذاب قبلا .
والآيات الدالة على طلبهم الهلاك والعذاب عنادا وتعنتا كثيرة جدا ، كقوله عن قوم شعيب : فأسقط علينا كسفا من السماء إن كنت من الصادقين [ 26 \ 187 ] ، وكقوله عن قوم هود : قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 46 \ 22 ] ، وكقوله عن قوم صالح : وقالوا ياصالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين [ 7 \ 77 ] ، وكقوله عن قوم لوط : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين [ 29 \ 29 ] ، وكقوله عن قوم نوح : قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين [ 11 \ 32 ] .
فهذه الآيات وأمثالها في القرآن ذكر الله فيها شيئا من سنة الأولين : أنهم يطلبون تعجيل العذاب عنادا وتعنتا ، وبين تعالى أنه أهلك جميعهم بعذاب مستأصل ، كإهلاك قوم نوح بالطوفان ، وقوم صالح بالصيحة ، وقوم شعيب بعذاب يوم الظلة ، وقوم هود بالريح العقيم ، وقوم لوط بجعل عالي قراهم سافلها ، وإرسال حجارة السجيل عليهم ، كما هو مفصل في الآيات القرآنية .
وبين في آيات كثيرة : أن كفار هذه الأمة كمشركي قريش سألوا العذاب كما سأله من قبلهم ، كقوله : وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم [ 8 \ 32 ] ، وقولـه : وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب [ 38 \ 16 ] ، وأصل القط : كتاب الملك الذي فيه الجائزة ، وصار يطلق على النصيب : فمعنى عجل لنا قطنا أي : نصيبنا المقدر لنا من العذاب الذي تزعم وقوعه بنا إن لم نصدقك ونؤمن بك ، كالنصيب الذي يقدره الملك في القط الذي هو كتاب الجائزة ، ومنه قول الأعشى :
ولا الملك النعمان يوم لقيته بغبطته يعطي القطوط ويأفق
وقوله " يأفق " أي : يفضل بعضا على بعض في العطاء ، والآيات بمثل ذلك كثيرة ، والقول الأول أظهر عندي ; لأن ما لا تقدير فيه أولى مما فيه تقدير إلا بحجة [ ص: 305 ] الرجوع إليها تثبت المحذوف المقدر ، والله تعالى أعلم ، وقد ذكرنا في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( وجه الجمع بين قوله تعالى هنا : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين الآية [ 18 \ 55 ] ، وبين قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، بما حاصله باختصار : أن المانع المذكور في سورة " الإسراء " مانع عادي يجوز تخلفه ; لأن استغرابهم بعث رسول من البشر مانع عادي يجوز تخلفه لإمكان أن يستغرب الكافر بعث رسول من البشر ثم يؤمن به مع ذلك الاستغراب ، فالحصر في قوله تعالى : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا [ 17 \ 94 ] ، حصر في المانع العادي ، وأما الحصر في قوله هنا : وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا [ 18 \ 55 ] ، فهو حصر في المانع الحقيقي ; لأن إرادته جل وعلا عدم إيمانهم ، وحكمه عليهم بذلك ، وقضاءه به مانع حقيقي من وقوع غيره .وقولـه في هذه الآية الكريمة : أو يأتيهم العذاب قبلا ، قرأه الكوفيون : وهم عاصم وحمزة " قبلا " بضم القاف والباء ، وقرأه الأربعة الباقون من السبعة : وهم والكسائي نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر " قبلا " بكسر القاف وفتح الباء ، أما على قراءة الكوفيين فقوله " قبلا " بضمتين جمع قبيل ، والفعيل إذا كان اسما يجمع على فعل كسرير وسرر ، وطريق وطرق ، وحصير وحصر ، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
وفعل لاسم رباعي بمد قد زيد قبل لام إعلالا فقد
وعلى هذا ، فمعنى الآية أو يأتيهم العذاب قبلا أي : أنواعا مختلفة ، يتلو بعضها بعضا ، وعلى قراءة من قرءوا " قبلا " كعنب ، فمعناه عيانا ، أي : أو يأتيهم العذاب عيانا ، وقال مجاهد رحمه الله " قبلا " أي : فجأة ، والتحقيق : أن معناها عيانا ، وأصله من المقابلة ; لأن المتقابلين يعاين كل واحد منهما الآخر ، وذكر أبو عبيد : أن معنى القراءتين واحد ، وأن معناهما عيانا ، وأصله من المقابلة ، وانتصاب " قبلا " على الحال على كلتا القراءتين ، وهو على القولين المذكورين في معنى " قبلا " إن قدرنا أنه بمعنى عيانا ، فهو مصدر منكر حال كما قدمنا مرارا ، وعلى أنه جمع قبيل : فهو اسم جامد [ ص: 306 ] مؤول بمشتق ; لأنه في تأويل : أو يأتيهم العذاب في حال كونه أنواعا وضروبا مختلفة ، والمصدر المنسبك من " أن " وصلتها في قوله : أن يؤمنوا في محل نصب ; لأنه مفعول " منع " الثاني ، والمنسبك في " أن " وصلتها في قوله : إلا أن تأتيهم سنة الأولين في محل رفع ; لأنه فاعل " منع " لأن الاستثناء مفرغ ، وما قبل " إلا " عامل فيما بعدها ، فصار التقدير : منع الناس الإيمان إتيان سنة الأولين ، على حد قوله في الخلاصة :
وإن يفرغ سابق إلا لما بعد يكن كما لو إلا عدما