ؤتنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة : مشروعية ; لأن المحراب موضع صلاة ارتفاع الإمام على المأمومين في الصلاة زكريا ، كما دل عليه قوله : وهو قائم يصلي في المحراب [ 3 \ 39 ] ، والمحراب أرفع من غيره ، فدل ذلك على ما ذكر ، قال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره : هذه الآية تدل على أن ارتفاع إمامهم على المأمومين كان مشروعا عندهم ، وقد اختلف في هذه المسألة فقهاء الأمصار ، فأجاز ذلك الإمام أحمد وغيره ، متمسكا بقصة المنبر ، ومنع مالك ذلك في الارتفاع الكثير دون اليسير ، وعلل أصحابه المنع بخوف الكبر على الإمام .
قلت : وهذا فيه نظر ، وأحسن ما فيه ما رواه أبو داود عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن هذا ، أو ينهى عن ذلك ؟ قال بلى ، ذكرت ذلك حين مددتني ، وروي أيضا عن قال : حدثني رجل أنه كان مع عدي بن ثابت الأنصاري عمار بن ياسر بالمدائن ، فأقيمت الصلاة فتقدم ، وقام على دكان يصلي والناس أسفل منه فتقدم عمار بن ياسر حذيفة فأخذ على يديه فاتبعه عمار حتى أنزله حذيفة ، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة : ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أو نحو ذلك ؟ فقال " إذا أم الرجل القوم فلا يقم في مكان أرفع من مقامهم عمار : لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي .
قلت : فهؤلاء ثلاثة من الصحابة قد أخبروا بالنهي عن ذلك ، ولم يحتج أحد منهم على صاحبه بحديث المنبر ، فدل على أنه منسوخ ، ومما يدل على نسخه : أن فيه عملا زائدا في الصلاة وهو النزول والصعود ، فنسخ كما نسخ الكلام والسلام ، وهذا أولى مما [ ص: 374 ] اعتذر به أصحابنا من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الكبر ; لأن كثيرا من الأئمة يوجدون لا كبر عندهم ، ومنهم من علله بأن ارتفاع المنبر كان يسيرا ، والله أعلم ، انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى .
قال مقيده عفا الله عنه : سنتكلم هنا إن شاء الله تعالى على الأحاديث المذكورة ، ونبين أقوال العلماء في هذه المسألة ، وأدلتهم وما يظهر رجحناه بالدليل .
أما الحديثان اللذان ذكرهما القرطبي عن أبي داود فقد ساقهما أبو داود في سننه : حدثنا أحمد بن سنان وأحمد بن الفرات أبو مسعود الرازي المعنى قال : ثنا يعلى ، ثنا عن الأعمش إبراهيم عن همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه إلى آخر الحديث ، ثم قال أبو داود رحمه الله : حدثنا ثنا أحمد بن إبراهيم حجاج عن ، أخبرني ابن جريج أبو خالد عن ، حدثني رجل أنه كان مع عدي بن ثابت الأنصاري عمار بن ياسر بالمدائن ، إلى آخر الحديث ، ولا يخفى أن هذا الحديث الأخير ضعيف ; لأن الراوي فيه عن عمار رجل لا يدرى من هو كما ترى ، وأما الأثر الأول فقد صححه غير واحد ، وروي مرفوعا صريحا ، قال ابن حجر في ) التلخيص ( في الكلام على الأثر والحديث المذكورين : ويعارضه ما رواه أبو داود من طريق همام : أن حذيفة أم الناس بالمدائن على دكان فأخذ أبو مسعود بقميصه فجبذه ، فلما فرغ من صلاته قال : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك ؟ قال بلى ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، وفي رواية للحاكم التصريح برفعه ، ورواه أبو داود من وجه آخر ، وفيه أن الإمام كان ، والذي جبذه عمار بن ياسر حذيفة ، وهو مرفوع لكن فيه مجهول ، والأول أقوى ، ويقويه ما رواه من وجه آخر عن الدارقطني همام عن أبي مسعود : ، ا هـ من التلخيص ، وقال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق شيء والناس خلفه أسفل منه النووي في شرح المهذب ، في الكلام على حديث صلاة حذيفة على الدكان وجبذ أبي مسعود له المذكور : رواه الشافعي وأبو داود والبيهقي ، ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم ، وإسناده صحيح ، ويقال جذب وجبذ ، لغتان مشهورتان ا هـ منه ، وأما قصة المنبر التي أشار لها القرطبي ، وقال : إنها حجة من يجيز ارتفاع الإمام على المأموم ، فهي حديث : أن سهل بن سعد " متفق عليه ، أما أقوال الأئمة في هذه [ ص: 375 ] المسألة : فمذهب النبي صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر في أول يوم وضع ، فكبر وهو عليه ثم ركع ثم نزل القهقرى فسجد وسجد الناس معه ، ثم عاد حتى فرغ ، فلما انصرف قال : " أيها الناس ، إنما فعلت هذا لتأتموا بي ، ولتعلموا صلاتي فيها هو كراهة علو الإمام على المأموم ، وكذلك عكسه إلا إذا كان ذلك لغرض صحيح محتاج إليه ، كارتفاع الإمام ليعلم الجاهلين الصلاة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته على المنبر ، وبين أنه فعل ذلك لقصد التعليم ، وكارتفاع المأموم ليبلغ غيره من المأمومين تكبيرات الإمام فإن كان ارتفاع أحدهما لنحو هذا الغرض استحب له الارتفاع لتحصيل الغرض المذكور . الشافعي
قال النووي في شرح المهذب : هذا مذهبنا ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، وعنه رواية ، أنه يكره الارتفاع مطلقا ، وبه قال مالك ، وحكى الشيخ والأوزاعي أبو حامد عن : أنه قال تبطل به الصلاة . الأوزاعي
وأما مذهب مالك في المسألة ففيه تفصيل بين علو الإمام على المأموم وعكسه ، فعلو المأموم جائز عنده ، وقد رجع إلى كراهته ، وبقي بعض أصحابه على قوله بجوازه ، وعلو الإمام لا يعجبه ، وفي المدونة قال مالك : لا بأس في غير الجمعة أن يصلي الرجل بصلاة الإمام على ظهر المسجد والإمام في داخل المسجد ، ثم كرهه ، وأخذ ابن القاسم بقوله الأول ، انتهى بواسطة نقل المواق في الكلام على قول خليل بن إسحاق في مختصره عاطفا على ما يجوز ، وعلو مأموم ولو بسطح ، وفي المدونة أيضا قال مالك : إذا صلى الإمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك فلا يعجبني ، انتهى بواسطة نقل المواق أيضا ، وقوله " يعجبني " ظاهر في الكراهة ، وحمله بعضهم على المنع ، وفي وجوب إعادة الصلاة قولان .
ومحل الخلاف ما لم يقصد المرتفع بارتفاعه التكبر على الناس ، فإن قصد ذلك بطلت صلاته عندهم إماما كان أو مأموما ، وهذه المسألة ذكرها خليل بن إسحاق في مختصره في قوله : وعلو مأموم ولو بسطح لا عكسه ، وبطلب بقصد إمام ومأموم به الكبر إلا بكشبر ا هـ ، وقولـه " إلا بكشبر " يعني إلا أن يكون الارتفاع بكشبر ، ونحو الشبر عظم الذراع عندهم ، ومحل جواز الارتفاع اليسير المذكور ما لم يقصد به الكبر ، فقوله " إلا بكشبر " مستثنى من قوله " لا عكسه " لا من مسألة قصده الكبر فالصلاة فيها باطلة عندهم مطلقا : قال المواق في شرحه لكلام خليل المذكور من المدونة : كره مالك وغيره أن يصلي الإمام على شيء أرفع مما يصلي عليه من خلفه ، مثل الدكان يكون في المحراب ونحوه ، قال ابن القاسم : فإن فعل أعادوا أبدا ، لأنهم يعبثون إلا أن يكون ذلك دكانا يسير الارتفاع مثل ما كان عندنا بمصر فتجزئهم الصلاة ، قال أبو محمد : مثل الشبر وعظم الذراع إلى أن قال : وانظر إذا صلى المقتدي كذلك أعني على موضع مرتفع قصدا [ ص: 376 ] إلى التكبر عن مساواة الإمام ، قال ابن بشير : صلاته أيضا باطلة ، ا هـ محل الغرض منه ، وقول ابن القاسم " لأنهم يعبثون " يعني برفع ذلك البنيان الذي يصلي عليه الإمام ، كما قال تعالى عن نبيه هود مخاطبا لقومه عاد : أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون [ 26 \ 128 - 129 ] ، وإذا ارتفعت مع الإمام طائفة من المصلين سائر الناس ، أعني ليست من أشراف الناس وأعيانهم ، ففي نفي الكراهة بذلك خلاف عندهم وإليه أشار خليل في مختصره بقوله : وهل يجوز إن كان مع الإمام طائفة كغيرهم تردد ، هذا هو حاصل مذهب مالك في هذه المسألة .
وأما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة : فهو أن ارتفاع كل من الإمام والمأموم على الآخر مكروه ، وقال : لا يكره علو المأموم على الإمام ، ومحل الكراهة عند الحنفية في الارتفاع غير اليسير ، ولا كراهة عندهم في اليسير : وقدر الارتفاع الموجب للكراهة عندهم قدر قامة ، ولا بأس بما دونها ، ذكره الطحاوي ، وهو مروي عن الطحاوي أبي يوسف : وقيل هو مقدر بقدر ما يقع عليه الامتياز ، وقيل : مقدر بقدر ذراع اعتبارا بالسترة ، قال صاحب تبيين الحقائق ، وعليه الاعتماد ، وإن فلا يكره ذلك على الصحيح عندهم انتهى بمعناه ) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق ( . كان مع الإمام جماعة في مكانه المرتفع ، وبقية المأمومين أسفل منهم
وأما مذهب الإمام أحمد في هذه المسألة : فهو التفصيل بين علو الإمام على المأموم ، فيكره على المشهور من مذهب أحمد ، وبين علو المأموم الإمام فيجوز ، قال في المغني : المشهور في المذهب أنه يكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين ، سواء أراد تعليمهم الصلاة ، أو لم يرد ، وهو قول ابن قدامة مالك وأصحاب الرأي ، وروي عن والأوزاعي أحمد ما يدل على أنه لا يكره ا هـ محل الغرض منه ، وقال في المغني أيضا : فإن صلى الإمام في مكان أعلى من المأمومين فقال ابن حامد : لا تصح صلاتهم ، وهو قول ; لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه ، وقال القاضي : لا تبطل ، وهو قول أصحاب الرأي ا هـ محل الغرض منه . الأوزاعي
فإذا عرفت مذاهب الأئمة الأربعة في هذه المسألة فاعلم أن أو منعه هي ما قدمنا في قصة جبذ حجة من كره علو الإمام على المأموم أبي مسعود لحذيفة لما أم الناس ، وقام يصلي على دكان ، الحديث المتقدم ، وقد بينا أقوال أهل العلم في الحديث المذكور . وحجة من أجاز ذلك للتعليم حديث المتفق عليه في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 377 ] على المنبر ، وجواب المخالفين عن صلاته على المنبر ، بأنه ارتفاع يسير ، وذلك لا بأس به ، أو بأنه منسوخ كما تقدم في كلام سهل بن سعد القرطبي ، وحجة من أجاز على المأموم على الإمام ما روي عن : أنه صلى بصلاة الإمام وهو على سطح المسجد . أبي هريرة
قال ابن حجر " في التلخيص " : رواه عن الشافعي إبراهيم بن محمد قال حدثني صالح مولى التوءمة أنه رأى يصلي فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد ، ورواه أبا هريرة البيهقي من حديث عن القعنبي عن ابن أبي ذئب صالح ، ورواه سعد بن منصور ، وذكره تعليقا . انتهى محل الغرض من كلامه ، فقد رأيت مذاهب العلماء في المسألة وأدلتهم . البخاري
قال مقيده عفا الله عنه : والذي يظهر والله تعالى أعلم وجوب الجمع بين الأدلة المذكورة ، وأن علو الإمام مكروه لما تقدم ، ويجمع بينه وبين قصة الصلاة على المنبر بجوازه للتعليم دون غيره ، ويدل لهذا إخباره صلى الله عليه وسلم أنه إذا ارتفع رأوه وإذا نزل لم يره إلا من يليه ، وجمع بعضهم بأن ارتفاعه على المنبر ارتفاع يسير وهو مغتفر ، أما علو المأموم فقد تعارض فيه القياس مع فعل ; لأن القياس يقتضي كراهة ارتفاع المأموم قياسا على ارتفاع الإمام وهو قياس جلي ، وإذا تعارض القياس مع قول الصحابي فمن الأصوليين من يقول بتقديم القياس ، وهو مذهب أبي هريرة مالك وجماعة ، ومنهم من يقول بتقديم قول الصحابي ، ولا شك أن الأحوط تجنب علو كل واحد من الإمام والمأموم على الآخر ، والعلم عند الله تعالى .
و " أن " في قوله : فأوحى إليهم أن سبحوا [ 19 \ 11 ] ، هي المفسرة ، والمعنى أن ما بعدها يفسر الإيحاء المذكور قبلها ، فهذا الذي أشار لهم به هو الأمر بالتسبيح بكرة وعشيا ، وهذا هو الصواب ، ويحتمل أن تكون مصدرية بناء على أن " أن " المصدرية تأتي مع الأفعال الطلبية ، وعليه فالمعنى : أوحى إليهم أي : أشار إليهم بأن سبحوا ، أي : بالتسبيح أو كتب لهم ذلك بناء على القول بأن المراد به الكتابة ، وكونها مفسرة هو الصواب ، والعلم عند الله تعالى .