أخذ بعض العلماء من قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : وهزي إليك بجذع النخلة الآية ، أن السعي والتسبب في تحصيل الرزق أمر مأمور به شرعا وأنه لا ينافي التوكل على الله جل وعلا ، وهذا أمر كالمعلوم من الدين بالضرورة أن الأخذ أمر مأمور به شرعا لا ينافي التوكل على الله بحال ; لأن المكلف يتعاطى السبب امتثالا لأمر ربه مع علمه ويقينه أنه لا يقع إلا ما يشاء الله وقوعه ، فهو متوكل على الله ، عالم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر ، ولو شاء الله تخلف تأثير الأسباب عن مسبباتها لتخلف . بالأسباب في تحصيل المنافع ودفع المضار في الدنيا
ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى : قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الآية [ 21 \ 69 ] ، فطبيعة الإحراق في النار معنى واحد لا يتجزأ إلى معان مختلفة ، ومع هذا أحرقت الحطب فصار رمادا من حرها في الوقت الذي هي كائنة بردا وسلاما على إبراهيم ، فدل ذلك دلالة قاطعة على أن التأثير حقيقة إنما هو بمشيئة خالق السماوات والأرض ، وأنه يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، وأنه لا تأثير لشيء من ذلك إلا بمشيئته جل وعلا .
ومن أوضح الأدلة في ذلك : أنه ربما جعل الشيء سببا لشيء آخر مع أنه مناف له ، كجعله ضرب ميت بني إسرائيل ببعض من بقرة مذبوحة سببا لحياته ، وضربه بقطعة ميتة من بقرة ميتة مناف لحياته ؛ إذ لا تكسب الحياة من ضرب بميت ، وذلك يوضح أنه جل وعلا يسبب ما شاء من المسببات على ما شاء من الأسباب ، ولا يقع تأثير ألبتة إلا بمشيئته جل وعلا .
ومما يوضح أن قوله تعالى عن تعاطي الأسباب لا ينافي التوكل على الله يعقوب : وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة [ 12 \ 67 ] ، أمرهم في هذا الكلام بتعاطي السبب ، وتسبب في ذلك بالأمر به ; لأنه يخاف عليهم أن تصيبهم الناس بالعين لأنهم أحد عشر رجلا أبناء رجل واحد ، وهم أهل جمال وكمال وبسطة في الأجسام ، فدخولهم من باب واحد مظنة لأن تصيبهم العين فأمرهم بالتفرق والدخول من أبواب متفرقة تعاطيا للسبب في السلامة من إصابة العين ; كما قال غير واحد من علماء السلف ، ومع هذا التسبب فقد قال الله عنه : [ ص: 399 ] وقال يابني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [ 12 \ 67 ] ، فانظر كيف جمع بين التسبب في قوله : لا تدخلوا من باب واحد ، وبين التوكل على الله في قوله : عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون ، وهذا أمر معلوم لا يخفى إلا على من طمس الله بصيرته ، والله جل وعلا قادر على أن يسقط لها الرطب من غير هز الجذع ، ولكنه أمرها بالتسبب في إسقاطه بهز الجذع ، وقد قال بعضهم في ذلك :
ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب ولو شاء أن تجنيه من غير هزه
جنته ولكن كل شيء له سبب
إذ يسفون بالدقيق وكانوا قبل لا يأكلون خبزا فطيرا
وقول الراعي :
هن الحرائر لا ربات أخمرة سود المحاجر لا يقرأن بالسور
وقول يعلى الأحول اليشكري أو غيره :
[ ص: 400 ]
بواد يمان ينبت السدر صدره وأسفله بالمرخ والشبهان
وقول الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا ملء المراجل والصريح الأجردا
وقول الراجز :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
وقول امرئ القيس :
فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال
وأمثال هذا كثيرة في كلام العرب .
، ثلاث منها سبعية ، وست شاذة ، أما الثلاث السبعية فقد قرأه وفي قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : " تساقط " تسع قراءات حمزة وحده من السبعة " تساقط " بفتح التاء وتخفيف السين وفتح القاف ، وأصله : تتساقط ; فحذفت إحدى التاءين ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل ، وقرأه حفص وحده عن عاصم " تساقط " بضم التاء وكسر القاف وتخفيف السين ، مضارع ساقطت تساقط ، وعلى هذه القراءة فقوله " رطبا " مفعول به للفعل الذي هو : تساقط هي ، أي النخلة ، رطبا ، وقرأه بقية السبعة " تساقط " بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، أصله : تتساقط ; فأدغمت إحدى التاءين في السين ، وعلى قراءة الجمهور هذه فقوله " رطبا " تمييز محول عن الفاعل كإعرابه على قراءة حمزة .
وغير هذا من القراءات شاذ .
وقوله في هذه الآية الكريمة : رطبا جنيا الجني : هو ما طاب وصلح لأن يجنى فيؤكل ، وعن : أن الجني هو الذي لم يجف ولم ييبس ، ولم يبعد عن يدي متناوله . أبي عمرو بن العلاء