قال بعض أهل العلم : نزلت هذه الآية في أبي بن خلف ، وجد عظاما بالية ففتتها بيده وقال : زعم محمد أنا نبعث بعد الموت ؟ قاله الكلبي ، وذكره الواحدي والثعلبي ، وقال المهدوي : نزلت في الوليد بن المغيرة ، وأصحابه ، وهو قول ، وقيل : نزلت في ابن عباس العاص بن وائل ، وقيل : في أبي جهل ، وعلى كل واحد من هذه الأقوال فقد أسند تعالى هذا القول لجنس الإنسان وهو صادر من بعض أفراد الجنس ; لأن من أساليب العربية إسناد الفعل إلى المجموع ، مع أن فاعله بعضهم لا جميعهم ، ومن أظهر الأدلة القرآنية في ذلك قراءة حمزة : فإن قتلوكم فاقتلوهم [ 2 \ 191 ] ، من القتل في الفعلين ، أي : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر ، كما تقدم مرارا ، ومن أظهر الشواهد العربية في ذلك قول والكسائي : الفرزدق
فسيف بني عبس وقد ضربوا به نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
[ ص: 473 ] فقد أسند الضرب إلى بني عبس ، مع أنه صرح بأن الضارب الذي بيده السيف هو ورقاء وهو ابن زهير بن جذيمة العبسي ، وخالد هو ابن جعفر الكلابي ، وقصة قتله لزهير المذكور مشهورة .وقد بين في هذه الآية : أن هذا الإنسان الكافر يقول منكرا البعث : أئذا ما مت لسوف أخرج حيا زعما منه أنه إذا مات لا يمكن أن يحيا بعد الموت ، وقد رد الله عليه مقالته هذه بقوله : أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا ، يعني : أيقول الإنسان مقالته هذه في إنكار البعث ، ولا يذكر أنا أوجدناه الإيجاد الأول ولم يك شيئا ، بل كان عدما فأوجدناه ، وإيجادنا له المرة الأولى دليل قاطع على قدرتنا على إيجاده بالبعث مرة أخرى .
وهذا البرهان الذي أشار له هنا قد قدمنا عليه في سورة البقرة والنحل وغيرهما ، كقوله تعالى : الآيات الدالة وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] ، وقوله تعالى : أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد [ 50 \ 15 ] ، وقوله : ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ 56 \ 62 ] ، وقوله : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه الآية [ 30 \ 27 ] ، وقوله : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، وقوله : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه .
وفي الحديث الصحيح الذي يرويه صلى الله عليه وسلم عن ربه : " ، فإن قيل : أين العامل في الظرف الذي هو إذا ، فالجواب : أنه منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط ; وتقديره : أأخرج حيا إذا ما مت ؟ أي : حين يتمكن في الموت والهلاك أخرج حيا ، يعني لا يمكن ذلك ، فإن قيل : لم لا تقول بأنه منصوب بـ أخرج ، المذكور في [ ص: 474 ] قوله : يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني ، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني ; وليس أول الخلق أهون علي من آخره ، وأما أذاه إياي ، فقوله إن لي ولدا ، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " لسوف أخرج حيا ، على العادة المعروفة ، من أن العامل في " إذا " هو جزاؤها ؟ فالجواب : أن لام الابتداء في قوله : لسوف أخرج حيا ، مانعة من عمل ما بعدها فيما قبلها كما هو معلوم في علم العربية ، فلا يجوز أن تقول : اليوم لزيد قائم ; تعني لزيد قائم اليوم ، وما زعمه بعضهم من أن حرف التنفيس الذي هو سوف مانع من عمل ما بعده فيما قبله أيضا ، حتى إنه على قراءة : " أئذا ما مت سأخرج حيا " بدون اللام يمتنع نصب " إذا " بـ " أخرج " المذكورة ; فهو خلاف التحقيق . طلحة بن مصرف
والتحقيق أن حرف التنفيس لا يمنع من عمل ما بعده فيما قبله ، ودليله وجوده في كلام العرب ; كقول الشاعر :
فلما رأته أمنا هان وجدها وقالت أبونا هكذا سوف يفعل