قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=78nindex.php?page=treesubj&link=28990أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا .
اعلم أن الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة رد على
العاص بن وائل السهمي [ ص: 492 ] قوله : إنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا ، بالدليل المعروف عند الجدليين بالتقسيم والترديد ، وعند الأصوليين بالسبر والتقسيم ، وعند المنطقيين بالشرطي المنفصل .
وضابط هذا الدليل العظيم أنه متركب من أصلين : أحدهما حصر أوصاف المحل بطريق من طرق الحصر ، وهو المعبر عنه بالتقسيم عند الأصوليين والجدليين ، وبالشرطي المنفصل عند المنطقيين .
والثاني : هو اختيار تلك الأوصاف المحصورة ، وإبطال ما هو باطل منها وإبقاء ما هو صحيح منها كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى ، وهذا الأخير هو المعبر عنه عند الأصوليين " بالسبر " ، وعند الجدليين " بالترديد " ، وعند المنطقيين ، بالاستثناء في الشرطي المنفصل ، والتقسيم الصحيح في هذه الآية الكريمة يحصر أوصاف المحل في ثلاثة ، والسبر الصحيح يبطل اثنين منها ويصحح الثالث ، وبذلك يتم إلقام
العاص بن وائل الحجر في دعواه أنه يؤتى يوم القيامة مالا وولدا .
أما وجه حصر أوصاف المحل في ثلاثة فهو أنا نقول : قولك أنك تؤتى مالا وولدا يوم القيامة لا يخلو مستندك فيه من واحد من ثلاثة أشياء :
الأول : أن تكون اطلعت على الغيب ، وعلمت أن إيتاءك المال والولد يوم القيامة مما كتبه الله في اللوح المحفوظ .
والثاني : أن يكون الله أعطاك عهدا بذلك ، فإنه إن أعطاك عهدا لن يخلفه .
الثالث : أن تكون قلت ذلك افتراء على الله من غير عهد ولا اطلاع غيب .
وقد ذكر تعالى القسمين الأولين في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=78أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 \ 78 ] ، مبطلا لهما بأداة الإنكار ، ولا شك أن كلا هذين القسمين باطل ; لأن
العاص المذكور لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، فتعين القسم الثالث وهو أنه قال ذلك افتراء على الله ، وقد أشار تعالى إلى هذا القسم الذي هو الواقع بحرف الزجر والردع وهو قوله : كلا ، أي : لأنه يلزمه ليس الأمر كذلك ، لم يطلع الغيب ، ولم يتخذ عند الرحمن عهدا ، بل قال ذلك افتراء على الله ; لأنه لو كان أحدهما حاصلا لم يستوجب الردع عن مقالته كما ترى ، وهذا الدليل الذي أبطل به دعوى
ابن وائل هذه هو الذي أبطل به بعينه دعوى
اليهود أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة في سورة " البقرة " ، وصرح في ذلك بالقسم الذي هو الحق ، وهو أنهم قالوا ذلك كذبا من غير علم .
[ ص: 493 ] وحذف في " البقرة " قسم اطلاع الغيب المذكور في " مريم " لدلالة ذكره في " مريم " على قصده في " البقرة " كما أن كذبهم الذي صرح به في " البقرة " لم يصرح به في " مريم " لأن ما في " البقرة " يبين ما في " مريم " لأن القرآن العظيم يبين بعضه بعضا ، وذلك في قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 80 ] ، فالأوصاف هنا هي الأوصاف الثلاثة المذكورة في " مريم " كما أوضحنا ، وما حذف منها يدل عليه ذكره في " مريم " فاتخاذ العهد ذكره في " البقرة ومريم " معا والكذب في ذلك على الله صرح به في " البقرة " بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80أم تقولون على الله ما لا تعلمون [ 2 \ 80 ] ، وأشار له في " مريم " بحرف الزجر الذي هو كلا ، واطلاع الغيب صرح به في " مريم " وحذفه في " البقرة " لدلالة ما في " مريم " على المقصود في " البقرة " كما أوضحنا .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=78nindex.php?page=treesubj&link=28990أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا .
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ رَدَّ عَلَى
الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ [ ص: 492 ] قَوْلَهُ : إِنَّهُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَالًا وَوَلَدًا ، بِالدَّلِيلِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ بِالتَّقْسِيمِ وَالتَّرْدِيدِ ، وَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ بِالسَّبْرِ وَالتَّقْسِيمِ ، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ بِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ .
وَضَابِطُ هَذَا الدَّلِيلِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ مُتَرَكِّبٌ مِنْ أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا حَصْرُ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ بِطَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْحَصْرِ ، وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقْسِيمِ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ وَالْجَدَلِيِّينَ ، وَبِالشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ عِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ .
وَالثَّانِي : هُوَ اخْتِيَارُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ الْمَحْصُورَةِ ، وَإِبْطَالُ مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْهَا وَإِبْقَاءُ مَا هُوَ صَحِيحٌ مِنْهَا كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ " بِالسَّبْرِ " ، وَعِنْدَ الْجَدَلِيِّينَ " بِالتَّرْدِيدِ " ، وَعِنْدَ الْمَنْطِقِيِّينَ ، بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّرْطِيِّ الْمُنْفَصِلِ ، وَالتَّقْسِيمُ الصَّحِيحُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَحْصُرُ أَوْصَافَ الْمَحِلِّ فِي ثَلَاثَةٍ ، وَالسَّبْرُ الصَّحِيحُ يُبْطِلُ اثْنَيْنِ مِنْهَا وَيُصَحِّحُ الثَّالِثَ ، وَبِذَلِكَ يَتِمُّ إِلْقَامُ
الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ الْحَجَرَ فِي دَعْوَاهُ أَنَّهُ يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَالًا وَوَلَدًا .
أَمَّا وَجْهُ حَصْرِ أَوْصَافِ الْمَحِلِّ فِي ثَلَاثَةٍ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ : قَوْلُكَ أَنَّكَ تُؤْتَى مَالًا وَوَلَدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَخْلُو مُسْتَنَدُكَ فِيهِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :
الْأَوَّلُ : أَنْ تَكُونَ اطَّلَعْتَ عَلَى الْغَيْبِ ، وَعَلِمْتَ أَنَّ إِيتَاءَكَ الْمَالَ وَالْوَلَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِمَّا كَتَبَهُ اللَّهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أُعْطَاكَ عَهْدًا بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إِنْ أَعْطَاكَ عَهْدًا لَنْ يُخْلِفَهُ .
الثَّالِثُ : أَنْ تَكُونَ قُلْتَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِ عَهْدٍ وَلَا اطِّلَاعِ غَيْبٍ .
وَقَدْ ذَكَرَ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=78أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [ 19 \ 78 ] ، مُبْطِلًا لَهُمَا بِأَدَاةِ الْإِنْكَارِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كِلَا هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ
الْعَاصَ الْمَذْكُورَ لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ، فَتَعَيَّنَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْقِسْمِ الَّذِي هُوَ الْوَاقِعُ بِحَرْفِ الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَهُوَ قَوْلُهُ : كَلَّا ، أَيْ : لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، لَمْ يَطَّلِعِ الْغَيْبَ ، وَلَمْ يَتَّخِذْ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ، بَلْ قَالَ ذَلِكَ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا حَاصِلًا لَمْ يَسْتَوْجِبِ الرَّدْعَ عَنْ مَقَالَتِهِ كَمَا تَرَى ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ دَعْوَى
ابْنِ وَائِلٍ هَذِهِ هُوَ الَّذِي أَبْطَلَ بِهِ بِعَيْنِهِ دَعْوَى
الْيَهُودِ أَنَّهُمْ لَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً فِي سُورَةِ " الْبَقَرَةِ " ، وَصَرَّحَ فِي ذَلِكَ بِالْقِسْمِ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ كَذِبًا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ .
[ ص: 493 ] وَحُذِفَ فِي " الْبَقَرَةِ " قِسْمُ اطِّلَاعِ الْغَيْبِ الْمَذْكُورُ فِي " مَرْيَمَ " لِدَلَالَةِ ذِكْرِهِ فِي " مَرْيَمَ " عَلَى قَصْدِهِ فِي " الْبَقَرَةِ " كَمَا أَنَّ كَذِبَهُمُ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي " الْبَقَرَةِ " لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي " مَرْيَمَ " لِأَنَّ مَا فِي " الْبَقَرَةِ " يُبَيِّنُ مَا فِي " مَرْيَمَ " لِأَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ يُبَيِّنُ بَعْضُهُ بَعْضًا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [ 2 \ 80 ] ، فَالْأَوْصَافُ هُنَا هِيَ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي " مَرْيَمَ " كَمَا أَوْضَحْنَا ، وَمَا حُذِفَ مِنْهَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ فِي " مَرْيَمَ " فَاتِّخَاذُ الْعَهْدِ ذَكَرَهُ فِي " الْبَقَرَةِ وَمَرْيَمَ " مَعًا وَالْكَذِبُ فِي ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ صَرَّحَ بِهِ فِي " الْبَقَرَةِ " بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=80أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [ 2 \ 80 ] ، وَأَشَارَ لَهُ فِي " مَرْيَمَ " بِحَرْفِ الزَّجْرِ الَّذِي هُوَ كَلَّا ، وَاطِّلَاعُ الْغَيْبِ صَرَّحَ بِهِ فِي " مَرْيَمَ " وَحَذَفَهُ فِي " الْبَقَرَةِ " لِدَلَالَةِ مَا فِي " مَرْيَمَ " عَلَى الْمَقْصُودِ فِي " الْبَقَرَةِ " كَمَا أَوْضَحْنَا .