قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولا ، وتكون في نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا له أمثلة في الترجمة ، وأمثلة كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة ، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة هذه الآية الكريمة ، فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك ، ومن أمثلته قول كثير من الناس إن آية " الحجاب " أعني قوله تعالى : وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب خاصة بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة ، في قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن ، وقد تقرر في الأصول أن العلة قد تعمم معلولها ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :
وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم
انتهى محل الغرض من كلامنا في الترجمة المذكورة .
وبما ذكرنا تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء ، لا خاص بأزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن ; لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه ، ومسلك العلة الذي دل على أن قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، هو علة قوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب ، هو المسلك المعروف في الأصول بمسلك الإيماء والتنبيه ، وضابط هذا المسلك المنطبق على جزئياته ، هو أن يقترن وصف بحكم شرعي على وجه لو لم يكن فيه ذلك الوصف علة [ ص: 243 ] لذلك الحكم لكان الكلام معيبا عند العارفين ، وعرف صاحب " مراقي السعود " دلالة الإيماء والتنبيه في مبحث دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء والتنبيه بقوله :
دلالة الإيــماء والتنـــبيه في الفن تقصد لدى ذويه
أن يقرن الوصف بحكم إن يكن لغير علة يعبه من فطن
وعرف أيضا الإيماء والتنبيه في مسالك العلة بقوله : والثالث الإيما اقتران الوصف بالحكم ملفوظين دون خلف
وذلك الوصف أو النــظير قرانه لغــــيرها يضير
فقوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، لو لم يكن علة لقوله تعالى : فاسألوهن من وراء حجاب ، لكان الكلام معيبا غير منتظم عند الفطن العارف .
وإذا علمت أن قوله تعالى : ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ، هو علة قوله : فاسألوهن من وراء حجاب ، وعلمت أن حكم العلة عام .
فاعلم أن العلة قد تعمم معلولها ، وقد تخصصه كما ذكرنا في بيت " مراقي السعود " ، وبه تعلم أن حكم آية الحجاب عام لعموم علته ، وإذا كان حكم هذه الآية عاما بدلالة القرينة القرآنية .
فاعلم أن الحجاب واجب بدلالة القرآن على جميع النساء .
واعلم أنا في هذا المبحث نريد أن نذكر الأدلة القرآنية على وجوب الحجاب على العموم ، ثم الأدلة من السنة ، ثم نناقش أدلة الطرفين ، ونذكر الجواب عن أدلة من قالوا بعدم وجوب الحجاب ، على غير أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وقد ذكرنا آنفا أن قوله : ذلكم أطهر لقلوبكم ، قرينة على عموم حكم آية الحجاب .
ومن الأدلة القرآنية على احتجاب المرأة وسترها جميع بدنها حتى وجهها قوله تعالى : ياأيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن [ 33 \ 59 ] ، فقد قال غير واحد من أهل العلم : إن معنى : يدنين عليهن من جلابيبهن : أنهن يسترن بها جميع وجوههن ، ولا يظهر منهن شيء إلا عين واحدة تبصر بها ، وممن قال به : ، ابن مسعود ، وابن عباس وغيرهم . وعبيدة السلماني
[ ص: 244 ] فإن قيل : لفظ الآية الكريمة وهو قوله تعالى : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لا يستلزم معناه ستر الوجه لغة ، ولم يرد نص من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع على استلزامه ذلك ، وقول بعض المفسرين : إنه يستلزمه ، معارض بقول بعضهم : إنه لا يستلزمه ، وبهذا يسقط الاستدلال بالآية على وجوب ستر الوجه .
فالجواب : أن في الآية الكريمة قرينة واضحة على أن قوله تعالى فيها : يدنين عليهن من جلابيبهن يدخل في معناه ستر وجوههن بإدناء جلابيبهن عليها ، والقرينة المذكورة هي قوله تعالى : قل لأزواجك ، ووجوب احتجاب أزواجه وسترهن وجوههن ، لا نزاع فيه بين المسلمين . فذكر الأزواج مع البنات ونساء المؤمنين يدل على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب ، كما ترى .
ومن الأدلة على ذلك أيضا : هو ما قدمنا في سورة " النور " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [ 40 \ 31 ] ، من أن استقراء القرآن يدل على أن معنى : إلا ما ظهر منها الملاءة فوق الثياب ، وأنه لا يصح تفسير : إلا ما ظهر منها بالوجه والكفين ، كما تقدم إيضاحه .
واعلم أن قول من قال : إنه قد قامت قرينة قرآنية على أن قوله تعالى : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لا يدخل فيه ستر الوجه ، وأن القرينة المذكورة هي قوله تعالى : ذلك أدنى أن يعرفن ، قال : وقد دل قوله : أن يعرفن على أنهن سافرات كاشفات عن وجوههن ; لأن التي تستر وجهها لا تعرف ، باطل ، وبطلانه واضح ، وسياق الآية يمنعه منعا باتا ; لأن قوله : يدنين عليهن من جلابيبهن صريح في منع ذلك .
وإيضاحه أن الإشارة في قوله : ذلك أدنى أن يعرفن راجعة إلى إدنائهن عليهن من جلابيبهن ، وإدناؤهن عليهن من جلابيبهن ، لا يمكن بحال أن يكون أدنى أن يعرفن بسفورهن وكشفهن عن وجوههن كما ترى ، فإدناء الجلابيب مناف لكون المعرفة معرفة شخصية بالكشف عن الوجوه ، كما لا يخفى .
وقوله في الآية الكريمة : لأزواجك دليل أيضا على أن المعرفة المذكورة في الآية ليست بكشف الوجوه ; لأن احتجابهن لا خلاف فيه بين المسلمين .
والحاصل : أن القول المذكور تدل على بطلانه أدلة متعددة : [ ص: 245 ] الأول : سياق الآية ، كما أوضحناه آنفا .
الثاني : قوله : لأزواجك ، كما أوضحناه أيضا .
الثالث : أن عامة المفسرين من الصحابة فمن بعدهم فسروا الآية مع بيانهم سبب نزولها ، بأن نساء أهل المدينة كن يخرجن بالليل لقضاء حاجتهن خارج البيوت ، وكان بالمدينة بعض الفساق يتعرضون للإماء ، ولا يتعرضون للحرائر ، وكان بعض نساء المؤمنين يخرجن في زي ليس متميزا عن زي الإماء ، فيتعرض لهن أولئك الفساق بالأذى ظنا منهم أنهن إماء ، فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يتميزن في زيهن عن زي الإماء ، وذلك بأن يدنين عليهن من جلابيبهن ، فإذا فعلن ذلك ورآهن الفساق ، علموا أنهن حرائر ، ومعرفتهم بأنهن حرائر لا إماء هو معنى قوله : ذلك أدنى أن يعرفن ، فهي معرفة بالصفة لا بالشخص . وهذا التفسير منسجم مع ظاهر القرآن ، كما ترى .
فقوله : يدنين عليهن من جلابيبهن ، لأن إدنائهن عليهن من جلابيبهن يشعر بأنهن حرائر ، فهو أدنى وأقرب لأن يعرفن ، أي : يعلم أنهن حرائر ، فلا يؤذين من قبل الفساق الذين يتعرضون للإماء ، وهذا هو الذي فسر به أهل العلم بالتفسير هذه الآية ، وهو واضح ، وليس المراد منه أن تعرض الفساق للإماء جائز ، هو حرام ولا شك أن المتعرضين لهن من الذين في قلوبهم مرض ، وأنهم يدخلون في عموم قوله : والذين في قلوبهم مرض [ 33 \ 60 ] ، في قوله تعالى : والذين في قلوبهم مرض ، إلى قوله : وقتلوا تقتيلا [ 33 \ 60 - 61 ] .
ومما يدل على أن المتعرض لما لا يحل من النساء من الذين في قلوبهم مرض قوله تعالى : فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض الآية [ 33 \ 32 ] ، وذلك معنى معروف في كلام العرب ، ومنه قول الأعشى :
حافظ للفرج راض بالتقى ليس ممن قلبه فيه مرض
وفي الجملة : فلا إشكال في أمر الحرائر بمخالفة زي الإماء ليهابهن الفساق ، ودفع ضرر الفساق عن الإماء لازم ، وله أسباب أخر ليس منها إدناء الجلابيب .