قد قدمنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ، [ ص: 246 ] أن الفعل الصناعي عند النحويين ينحل عن مصدر وزمن ; كما قال ابن مالك في " الخلاصة " :
المصدر اسم ما سوى الزمان من مدلولي الفعل كأمن من أمن .
وأنه عند جماعات من البلاغيين ينحل عن مصدر وزمن ونسبة .
وإذا علمت ذلك ، فاعلم أن المصدر والزمن كامنان في مفهوم الفعل إجماعا ، وقد ترجع الإشارات والضمائر تارة إلى المصدر الكامن في مفهوم الفعل ، وتارة إلى الزمن الكامن فيه .
فمثال رجوع الإشارة إلى المصدر الكامن فيه ، قوله تعالى هنا : يدنين عليهن ، ثم قال : ذلك أدنى أن يعرفن ، أي : ذلك الإدناء المفهوم من قوله : يدنين .
ومثال رجوع الإشارة للزمن الكامن فيه قوله تعالى : ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد [ 50 \ 20 ] ، فقوله : ذلك يعني زمن النفخ المفهوم من قوله : ونفخ ، أي : ذلك الزمن يوم الوعيد .
ومن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام هو ما تقرر في الأصول ، من أن خطاب الواحد يعم حكمه جميع الأمة ، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب ، وقد أوضحنا هذه المسألة في سورة " الحج " ، في مبحث النهي عن لبس المعصفر ، وقد قلنا في ذلك ; لأن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة ، لاستوائهم في أحكام التكليف ، إلا بدليل خاص يجب الرجوع إليه ، وخلاف أهل الأصول في خطاب الواحد ، هل هو من صيغ العموم الدالة على عموم الحكم ؟ خلاف في حال لا خلاف حقيقي ، فخطاب الواحد عند الحنابلة صيغة عموم ، وعند غيرهم من المالكية والشافعية وغيرهم أن خطاب الواحد لا يعم ; لأن اللفظ للواحد لا يشمل بالوضع غيره ، وإذا كان لا يشمله وضعا ، فلا يكون صيغة عموم . ولكن أهل هذا القول موافقون على أن حكم خطاب الواحد عام لغيره ، ولكن بدليل آخر غير خطاب الواحد وذلك الدليل بالنص والقياس .
أما القياس فظاهر ، لأن قياس غير ذلك المخاطب عليه بجامع استواء المخاطبين في أحكام التكليف من القياس الجلي .
والنص كقوله - صلى الله عليه وسلم - في مبايعة النساء : " " . إني لا أصافح [ ص: 247 ] النساء ، وما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة
قالوا : ومن أدلة ذلك حديث : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " . قال ابن قاسم العبادي في الآيات البينات : اعلم أن حديث " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، لا يعرف له أصل بهذا اللفظ ، ولكن روى الترمذي وقال : حسن صحيح . والنسائي وابن ماجه ، قوله - صلى الله عليه وسلم - في مبايعة النساء : " وابن حبان " ، وساق الحديث كما ذكرناه ، وقال صاحب " كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس " : " إني لا أصافح النساء حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " ، وفي لفظ : " كحكمي على الجماعة " ، ليس له أصل بهذا اللفظ ; كما قاله العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي . وقال في " الدرر " كالزركشي : لا يعرف . وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه ، نعم يشهد له ما رواه الترمذي من حديث والنسائي أميمة بنت رقيقة ، فلفظ : " النسائي " ، ولفظ ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة الترمذي : " " ، وهو من الأحاديث التي ألزم إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة الشيخين بإخراجها لثبوتها على شرطهما ، وقال الدارقطني ابن قاسم العبادي في " شرح الورقات الكبير " : " حكمي على الواحد " لا يعرف له أصل إلى آخره ، قريبا مما ذكرناه عنه ، انتهى .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الحديث المذكور ثابت من حديث أميمة بنت رقيقة بقافين مصغرا ، وهي صحابية من المبايعات ، ورقيقة أمها ، وهي أخت ، وقيل : عمتها ، واسم أبيها خديجة بنت خويلد بجاد - بموحدة ثم جيم - ابن عبد الله بن عمير التيمي ، تيم بن مرة . وأشار إلى ذلك في " مراقي السعود " بقوله :
خطاب واحد لغير الحنبل من غير رعي النص والقيس الجلي
انتهى محل الغرض منه .