الفرع الخامس : اختلف العلماء في أقل العدد الذي يصح أن يحلف أيمان القسامة ; فذهب مالك  وأصحابه إلى أنه لا يصح أن يحلف أيمان القسامة في العمد أقل من رجلين  من العصبة ، فلو كان للمقتول ابن واحد مثلا استعان برجل آخر من عصبة المقتول ولو غير وارث يحلف معه أيمانها ، وأظهر الأقوال دليلا هو صحة استعانة الوارث بالعصبة غير الوارثين في أيمان القسامة ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة  ومحيصة    : " يحلف خمسون منكم   . " الحديث . وهما ابنا عم المقتول ، ولا يرثان فيه لوجود أخيه ، وقد قال لهم " يحلف خمسون منكم   " ، وهو يعلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل  المقتول عشرون رجلا وارثون ، لأنه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسبا . 
وأجاب المخالفون بأن الخطاب للمجموع مرادا به بعضهم ، وهو الوارثون منهم دون غيرهم ولا يخفى بعده ; فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يمينا ، وإن كانوا أقل من ذلك وزعت عليهم بحسب استحقاقهم في الميراث ، فإن نكل بعضهم رد نصيبه على الباقين إن كان الناكل معينا لا وارثا ، فإن كان وارثا يصح عفوه عن الدم ، سقط القود بنكوله ، وردت الأيمان على المدعى عليهم على نحو ما قدمنا . هذا مذهب مالك  رحمه الله . 
وأما القسامة في الخطأ عند مالك  رحمه الله فيحلف أيمانها الوارثون على قدر أنصبائهم ، فإن لم يوجد إلا واحد ولو امرأة حلف الخمسين يمينا كلها واستحق نصيبه من الدية . 
وأما  الشافعي  رحمه الله فقال : لا يجب الحق حتى يحلف الورثة خاصة خمسين يمينا سواء قلوا أم كثروا ، فإن كان الورثة خمسين حلف كل واحد منهم يمينا ، وإن كانوا أقل أو نكل بعضهم ردت الأيمان على الباقين ، فإن لم يكن إلا واحد حلف خمسين يمينا واستحق حتى لو كان من يرث بالفرض والتعصيب أو بالنسب والولاء حلف واستحق . 
وقد قدمنا أن الصحيح في مذهب  الشافعي  رحمه الله : أن القسامة إنما تستحق بها   [ ص: 143 ] الدية لا القصاص . 
وأما الإمام أحمد  فعنه في هذه المسألة روايتان : 
الأولى : أنه يحلف خمسون رجلا من العصبة خمسين يمينا ، كل رجل يحلف يمينا واحدة ، فإن وجدت الخمسون من ورثة المقتول فذلك ، وإلا كملت الخمسون من العصبة الذين لا يرثون ، الأقرب منهم فالأقرب حتى تتم الخمسون ، وهذا قول لمالك  أيضا ، وهذا هو ظاهر بعض روايات حديث سهل  الثابتة في الصحيح . 
والرواية الأخرى عن الإمام أحمد  أنه لا يحلف أيمان القسامة إلا الورثة خاصة ، وتوزع عليهم على قدر ميراث كل واحد منهم ، فإن لم يكن إلا واحد حلف الخمسين واستحق ، إلا أن النساء لا يحلفن أيمان القسامة عند أحمد  ، فالمراد بالورثة عنده الذكور خاصة . وهذه الرواية هي ظاهر كلام الخرقي  ، واختيار أبي حامد    . 
وأما الإمام أبو حنيفة  رحمه الله فقد قدمنا أن أيمان القسامة عنده لا يحلفها إلا خمسون رجلا من أهل المحلة التي وجد بها القتيل ، فيقسمون أنهم ما قتلوه ولا علموا له قاتلا . 
تنبيه 
قد علمت كلام العلماء فيمن يحلف أيمان القسامة ، فإذا وزعت على عدد أقل من الخمسين ووقع فيها انكسار ، فإن تساووا جبر الكسر عليهم ، كما لو خلف المقتول ثلاثة بنين ; فإن على كل واحد منهم ثلث الخمسين يمينا ، وهو ست عشرة وثلثان ، فيتمم الكسر على كل واحد منهم ، فيحلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينا . 
فإن قيل : يلزم على ذلك خلاف الشرع في زيادة الأيمان على خمسين يمينا ; لأنها تصير بذلك إحدى وخمسين يمينا . 
فالجواب : أن نقص الأيمان عن خمسين لا يجوز ، وتحميل بعض الورثة زيادة على الآخرين لا يجوز ، فعلم استواؤهم في جبر الكسر ، فإذا كانت اليمين المنكسرة لم يستو في قدر كسرها الحالفون ، كأن كان على أحدهم نصفها ، وعلى آخر ثلثها ، وعلى آخر سدسها ، حلفها من عليه نصفها تغليبا للأكثر ، ولا تجبر على صاحب الثلث والسدس . وهذا هو مذهب مالك  وجماعة من أهل العلم ، وقال غيرهم : تجبر على الجميع . والله تعالى أعلم . 
 [ ص: 144 ] وقال بعض أهل العلم : يحلف كل واحد من المدعين خمسين يمينا ، سواء تساووا في الميراث أو اختلفوا فيه . واحتج من قال بهذا بأن الواحد منهم لو انفرد لحلف الخمسين يمينا كلها . قال : وما يحلفه منفردا يحلفه مع غيره كاليمين الواحدة في سائر الدعاوى . 
قال مقيده عفا الله عنه : وهذا القول بعيد فيما يظهر ; لأن الأحاديث الواردة في القسامة تصرح بأن عدد أيمانها خمسون فقط ، وهذا القول قد تصير به مئات كما ترى ، والعلم عند الله تعالى . 
				
						
						
