ومعنى هذا الجعل أن سنة الله تعالى في الخلق مضت بأن يكون الشرير المتمرد العاتي عن الحق والمعروف ، أي الذي لا ينقاد لهما كبرا وعنادا وجمودا على ما تعود ، يكون عدوا للدعاة إليهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومن ورثتهم وناشري هدايتهم . وهكذا شأن كل ضدين يدعو أحدهما إلى خلاف ما عليه الآخر مما يتعلق بمنافعهم الاجتماعية ، فإن كان أحدهما خيرا محقا نسبت العداوة إلى الآخر الشرير المبطل ; لأنه هو الذي يسعى إلى إيذاء مخالفه بكل وسيلة يستطيعها لأنه مخالف وإن كان يعلم أنه يريد الخير له . وليس كل مخالف مبطل عدوا يسعى جهده لإيذاء مخالفه المحق وإنما يتصدى لذلك العتاة المستكبرون المحبون للشهرة والزعامة بالباطل والمترفون الذين يخافون على نعيمهم ، فلم يكن كل كافر بالأنبياء عليهم السلام ناصبا نفسه لعداوتهم وإيذائهم وصد الناس عنهم ، بل أولئك هم العتاة المتمردون من الرؤساء والمترفين والقساة الذين ضربت أنفسهم بالعدوان والبغي ، وأولئك هم الشياطين المفسدون في الأرض ، سواء كانوا من جنس الإنس الظاهر أو من جنس الجن الخفي ، وحكمة عداوة الأشرار للأخيار هي ما يعبر عنه في عرف علماء الاجتماع البشري بسنة تنازع البقاء بين المتقابلات التي تفضي بالجهاد والتمحيص إلى ما يسمونه ( سنة الانتخاب الطبيعي ) أي انتصار الحق وبقاء الأمثل التي ورد بها المثل في قوله تعالى من سورة الرعد : ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ) ( 13 : 17 ) فالحياة الدنيا جهاد لا يكمل ويثبت فيها إلا المجاهدون الصابرون ، وكذلك العمل فيها للآخرة ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) ( 2 : 142 ) ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) ( 2 : 214 ) [ ص: 7 ] ( والعاقبة للمتقين ) ولكن أكثر الناس حتى من أهل الحق بله غيرهم يجهلون هذه السنن الحكيمة العالية ، وإذا ذكرت لهم يشتبهون في تطبيقها على أنفسهم وعلى غيرهم ، كما اشتبه كثير من المسلمين في سبب خذلان دولهم وسقوط حكوماتهم ، ظانين أن مجرد تسميتها مسلمة كاف لنصر الله إياها وإن خالفت هداية دينه بالظلم والفسق والكفر في زعمائها وإقرارهم عليه من دهمائها ، وخالفت سننه في تنازع البقاء وتوقفه على كمال الاستعداد كما قال : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ) ( 8 : 60 ) وقال : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) ( 8 : 46 ) ولم يقيموا شيئا من هذه الأوامر والنواهي بل فعلوا ضدها ، وقد سبق لنا تحقيق هذه المباحث في التفسير وغير التفسير من أبواب المنار .
ثم بين تعالى شر ضروب عداء هؤلاء الشياطين للأنبياء وهو مقاومة هدايتهم بقوله : ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المموه بما يظنون أنه يستر قبحه ويخفي باطله بطرق خفية دقيقة لا يفطن لباطلها كل أحد ليغروهم به . فالإيحاء : الإعلام بالأشياء من طريق خفي دقيق سريع كالإيماء وتقدم . والزخرف الزينة كالأزهار للأرض والذهب للنساء والتخييل الشعري في الكلام ، وما يصرف السامع عن الحقائق إلى الأوهام . والغرور ضرب من الخداع بالباطل مأخوذ من الغرة ( بالكسر ) والغرارة ( بالفتح ) وهما بمعنى الغفلة والبلاهة وعدم التجارب ومنه : شاب غر وفتاة غر ( بالكسر ) أي غافلان عن شئون الرجال والنساء لا تجربة لهما . وهذا مأخوذ من غر الثوب ( بالفتح ) وهو الكسر والثني الذي يحدث من طيه . يقولون طويت الثوب على غره ، أي على ثني طيته الأولى لم أحدث فيه تغييرا ، ثم صار مثلا يضرب لكل ما يترك على حاله ، يقال : طويته على غره . والبصير الذي علمته التجارب حيل الناس وأباطيلهم لا يغر كما يغر من بقي على سجيته التي خلق عليها كالثوب الباقي على طيته الأولى . يقال غره يغره غرا وغرورا والمثال الأول من هذا الغرور هو ما أوحاه الشيطان الأول للإنسان الأول أبينا ( آدم ) ولزوجه ، وهو تزيينه لهما الأكل من الشجرة التي اختبرهما الله تعالى بالنهي عن قربها إذ قال لهما إنها ( شجرة الخلد وملك لا يبلى ) ( 20 : 120 ) . ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور ) ( 7 : 21 ، 22 ) ومنه ما يوسوس به شياطين الإنس والجن لمن يزينون لهم المعاصي بما فيها من اللذة والانطلاق من القيود المانعة من الحرية ، وإطماع المؤمن منهم بأماني الرحمة والمغفرة ، والكفارات والشفاعة ، كقول أحد شياطين الإنس :
تكثر ما استطعت من الخطايا فإنك واجد ربا غفورا تعض ندامة كفيك مما
تركت مخافة النار السرورا
( ولو شاء ربك ما فعلوه ) أي ولو شاء ربك - أيها الرسول - ألا يفعلوا هذا الإيحاء الغار ما فعلوه ، ولكنه لم يشأ أن يغير خلقهم ، أو يجبرهم على خلاف ما زينته لهم أهواؤهم ، بل شاء أن يكون كل من الإنس والجن مستعدين للحق والباطل والخير والشر ، وأن يكونوا مختارين في سلوك كل من الطريقين ، كما قال في الإنسان ( وهديناه النجدين ) ( 90 : 10 ) ومن وسوسة هؤلاء الشياطين للناس وزخرفها تحريف مثل هذه الآية الحكيمة بحملها على معنى الجبر فيقولون : إن كل عاص لله معذور لأنه ما عصاه إلا بمشيئته التي لا يستطيع الخروج عنها . وسيأتي في هذه السورة قوله تعالى في ذلك : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ) ( 6 : 148 ) فلا عذر بمشيئة الله لأحد لأنه لم يشأ أن تكون أفعالهم اضطرارية ، بل خلقهم بمشيئته يفعلون ما يفعلون باختيارهم ويحتجون على المنكرين عليهم كثيرا بأنهم على حق ، وإذا اعترفوا بخطأ يلتمسون لأنفسهم فيه العذر ( فذرهم وما يفترون ) من كذب ، ويخلقون من إفك ، ليصرفوا الناس عن الحق ، واستقم كما أمرت ، فإنما عليك البلاغ ، وعلينا الحساب والجزاء ، والعاقبة للمتقين وسنريك سنتنا في أمثالهم بعد حين . وقد فعل عز وجل فأهلك المستهزئين بالقرآن الذين قيل إن السياق نزل فيهم ، ونصر الله عبده ، وأعز جنده وهكذا ينصر من ينصره ، وأما المتنازعون على الباطل ، ومجد الدنيا الزائل ، فإنما يكون الفلج بينهم بحسب سنن الله تعالى لأشدهم مراعاة لها في الاستعداد الحربي والاجتماعي ، وتخلقا بالأخلاق العالية كالصبر والثبات كما بيناه مرارا .
( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة ) صغي إليه " كرضي " يصغى صغى وصغي إليه صغيا مال ومثله صغا يصغو صغوا . وأصغى إلى حديثه مال واستمع ، وأصغى الإناء أماله . ويقال : صغي فلان وصغوه معك أي : ميله وهواه - كما يقال ضلعه معك والمعنى يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغروهم به ويخدعوهم وينشأ عن ذلك أن تصغى إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة لموافقته لأهوائهم ( وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ) أي وليترتب عليه أيضا أن يرضوه من غير بحث في صحته وعدمها ، وأن يقترفوا بتفسيره ما هم مقترفوه من المعاصي والآثام بغرورهم به ورضاهم عنه . اقترف المال اكتسبه ، والذنب اجترحه ، وصرح باللام في هذه الجمل دون الغرور لأن الغرور من فعل الموحين [ ص: 9 ] وهذه الأفعال ليست منه وإنما هي مما يترتب عليه من أفعال المغترين به لاستعدادهم له وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة ، فإنهم هم الذين لا يهمهم من حياتهم إلا اتباع أهوائهم وإرضاء شهواتهم . وقد غفل بعض المفسرين عن الفرق بين فعل الغر والغرور وبين ما يترتب عليه من أفعال المغترين به ، فظن أن تفسير الكلام هكذا يكون من عطف الشيء على نفسه وإنما هو بمعنى زيد غر عمرا فاغتر . وهذه اللام هي التي تسمى لام العاقبة والصيرورة قطعا .
ومن نكتة الفرق بين قوله تعالى في الآية ( 112 ) من هذه الآيات : ( مباحث البلاغة ولو شاء ربك ما فعلوه ) وقوله في الآية ( 107 ) من آيات قبلها في السورة : ( ولو شاء الله ما أشركوا ) وهي أن المشيئة أسندت إلى اسم الجلالة في مقام إظهار الحقائق في شئون المشركين وما يجب على الرسول وما ليس له ، وأسندت إلى اسم الرب مضافا إلى الرسول في مقام تسليته وبيان سنته تعالى في أعداء الرسل قبله ، فكأنه يقول : هذا ما اقتضته مشيئة ربك الكافل لك بحسن تربيته وعنايته - نصرك على أعدائك ، وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك من المؤمنين . كما تقدم آنفا في تفسير الجملة والحمد لله ملهم الصواب .