الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          أما الحمر الأهلية أو الإنسية ( ويقابلها الحمر الوحشية وهي مجمع على حلها ) فما ورد في حظرها بلفظ النهي يحتمل كونه للكراهة كما قال من لم يحرمها ، وأقواها ما ورد بلفظ التحريم مع تعليله بأنها رجس ، إذ صرح بعضهم بأنه يدل على أنها محرمة لنجاستها وهي صفة لازمة لها كالخنزير وستعلم ما فيه . وقد يكون رواية بالمعنى ممن فهم أن النهي للتحريم ، وسيأتي أنهم اختلفوا في فهمه وتعليله . ومثله النهي عن أكل الضب وقد فهم بعضهم أنه للتحريم مع صحة الحديث بحله وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " لست آكله ولا أحرمه " وأكله في بيته بحضرته ، وفي الحديث أن سبب التحريم قول من قال : أكلت الحمر ، ثم قوله : أفنيت الحمر . وإننا ننقل خلاصة ما قال العلماء في المسألة ونبني عليه التحقيق فيها فنقول :

                          ذكر الحافظ في الفتح أن ابن عباس توقف في النهي عن الحمر ، هل كان لمعنى خاص أو للتأبيد واستشهد بقول الشعبي عنه : لا أدري أنهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه كان حمولة للناس فكره أن تذهب حمولتهم ، أو حرمها ألبتة يوم خيبر ( قال ) : وهذا التردد أصح من الخبر الذي جاء عنه بالجزم بالعلة المذكورة ، وكذا فيما أخرجه الطبراني وابن ماجه من طريق شقيق بن سلمة عن ابن عباس قال : إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحمر الأهلية مخافة قلة الظهر ، وسنده ضعيف وتقدم في حديث ابن أبي أوفى فتحدثنا أنه إنما نهى عنها لأنها لم تخمس ، وقال بعضهم : لأنها كانت تأكل العذرة . ( قال الحافظ ) : وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أوكانت جلالة ( أي تأكل الجلة والعذرة ) أو كانت انتهبت حديث أنس حيث جاء فيه : " فإنها رجس " وكذا الأمر بغسل الإناء في حديث سلمة ، قال القرطبي : قوله : " فإنها رجس " ظاهر في عود الضمير على الحمر لأنها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها ، وهذا حكم المتنجس ، فيستفاد منه تحريم أكلها وهو دال على تحريمها لعينها لا لمعنى خارج . وقال ابن دقيق العيد : الأمر بإكفاء [ ص: 136 ] القدور ظاهر أنه سبب تحريم لحم الحمر ، وقد وردت علل أخرى إن صح شيء منها وجب المصير إليه ، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة . وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه .

                          وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل ، فإن من حديث جابر النهي عن الحمر والإذن في الخيل مقرونا ، فلو كانت العلة لأجل الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وشدة حاجتهم إليها .

                          والجواب عن آية الأنعام أنها مكية وخبر التحريم متأخر جدا فهو مقدم وأيضا فنص الآية خبر عن حكم الموجود عند نزولها ، فإنه حينئذ لم يكن نزل في تحريم المأكول إلا ما ذكر فيها وليس فيها ما يمنع أن ينزل بعد ذلك غير ما فيها ، وقد نزل بعدها في المدينة أحكام بتحريم أشياء غير ما ذكر فيها كالخمر في آية المائدة وفيها أيضا تحريم ما أهل لغير الله به ، والمنخنقة إلى آخره . وكتحريم السباع والحشرات . قال النووي : قال بتحريم الحمر الأهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم ، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا إلا عن ابن عباس وعند المالكية ثلاث روايات ثالثتها الكراهة .

                          وأما الحديث الذي أخرجه أبو داود ، عن غالب بن أبجر قال : أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلا سمان حمر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إنك حرمت لحوم الحمر الأهلية ، وقد أصابتنا سنة قال : " أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية " يعني الجلالة ، وإسناده ضعيف والمتن شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة فلا اعتماد عليها . وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر الأهلية فقال : " أليس ترعى الكلأ وتأكل الشجر ؟ " قال : نعم . قال : " فأصب من لحومها " وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال : سألت . فذكر نحوه - ففي السندين مقال ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم . قال الطحاوي : لو تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحريم الحمر الأهلية لكان النظر يقتضي حلها ; لأن كل ما حرم من الأهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيا ، وقد أجمع العلماء على حل الحمار الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الأهلي والوحشي منه ( ورده الحافظ بمنع دعوى الإجماع وسنده أن بعض الأهلي مختلف في وحشيه كالهر ) اهـ .

                          أقول : هذا ما أورده الحافظ في شرح البخاري من تلخيص أقوال العلماء في مسألة أكل الحمير وعلم منه أن عمدة الجازمين بالتحريم حديث أنس المعلل له بأنها رجس . ونقول إن هذا التعليل هو الراجح المختار عندنا ، ولكنه بمعنى حديث غالب بن أبجر المذكور آنفا لا بالمعنى الذي ردوه به وجعلوه شاذا بمخالفته ; إذ فسروا وصفها بالرجس بأنها نجسة العين [ ص: 137 ] كالخنزير بالمعنى الفقهي للنجاسة وهو ما يجب غسله شرعا ، ويمنع صحة الصلاة إذا كان في بدن المصلي أو ثوبه . وحديث غالب بن أبجر يفسر كونها رجسا بأنها كانت هنالك ( أي في خيبر ) تأكل العذرة وغيرها من النجاسات ; وبذلك فسر بعض المدققين كالبيضاوي كون الخنزير رجسا أيضا . ولكن الخنزير ملازم للأقذار دائم التغذي منها ، وأما الحمر فإنما كان ذلك أمرا عارضا لها كما يعرض لغيرها من الدواجن كالدجاج ، فجوال من قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما حرمتها من أجل جوال القرية " بتشديد اللام جمع جالة كهوام جمع هامة ودواب جمع دابة ، وهي الجلالة التي تأكل العذرة فيخبث لحمها ، وقد صح النهي عنها ، وفسره الشافعية وغيرهم بتحريمها تحريما عارضا موقتا ، أي ما دام لحمها ولبنها متغيرا من النجاسة بالنتن وتغير الرائحة ، وهذا هو العمدة كما جزم به النووي في الروضة تبعا للرافعي ، وقيل : هي ما كان أكثر علفها نجسا ، فحديث أنس شاهد يقوي حديث غالب بن أبجر لأنه بمعناه لا معارض له فيجعل شاذا بمخالفته إياه ، فلا يضره اضطراب سنده إذا مع عدم الطعن برجاله . وحديث أم نصر المحاربية يقوي ما ذكرناه بتعليله حل لحوم الحمر بكونها تأكل الكلأ وورق الشجر أي لا النجاسة - فالحديثان متفقان في المعنى مع حديث أنس الذي هو عمدة القائلين بتحريم الحمر ، وإنما يجمع بين هذه الأحاديث وبين الآية بل الآيات القطعية اللفظ والدلالة على الإباحة بأن التحريم كان عارضا موقتا فيقصر على وجود العلة في كل زمان ومكان ويباح في سائر الأحوال على الأصل ومقتضى النص القطعي ، وهذا لا يمنع صحة تعليل بعض الصحابة إياه بقلة الظهر أي ما يحمل عليه ، فإنه كان سبب النهي في حديث أنس وتلاه قوله : فإنها رجس . وما قيل من معارضته بحل الخيل مردود بأن المراد بالحاجة إلى الحمل هي حمل المتاع من الغنائم وغيرها ولم تكن الخيل تستعمل لهذا ولا تفي به ، وقد صرحوا بأنها كانت عزيزة وقتئذ . ولو كانت الحمير نجسة العين شرعا لورد ذلك صريحا من أول الإسلام وتوفرت دواعي نقله وتواتر العمل بمقتضاه ، وإكفاء القدور وغسلها لو لم يكن للرجس العارض من أكلها العذرة لتعين أن يكون لمحض النظافة كما يفعل جميع الناس في جميع القدور التي يطبخون فيها لحوم الأنعام وغيرها من الطيبات فإنهم يغسلونها بعد فراغها .

                          وأما جوابهم عن الآية بأنها مكية بينت ما كان محرما وقت نزولها وليس فيها ما يمنع تحريم غيره بعدها كتحريم الحمر والمنخنقة والموقوذة إلخ . فهو غفلة وقع فيها كثير من الحفاظ والمفسرين والفقهاء وجل من لا ينسى ولا يخطئ .

                          الآية قد أكدتها آية بعدها في سورة النحل وآية مدنية في سورة البقرة كما ذكرنا وسيأتي شرحه . وتحريم الحمر ليس زائدا على مفهوم الآية لأن الآية في الأطعمة والأغذية [ ص: 138 ] وبهذا يرد قول من أورد على الحصر أكل النجاسات والسموم فإن هذه الأشياء ليست أطعمة فتدخل في عموم الآية وكذلك الحمر . وقد تقدم أن المنخنقة وما عطف عليها في آية المائدة من الميتة ، وأما تحريم السباع والحشرات فليس في القرآن ، وما ورد في السنة منه فهو موضوع البحث كالحمر الإنسية وقد علمت المختار القوي فيه ، فهذا بيان بطلان ما أجابوا به عنها بالإجمال وسيأتي تفصيل فيه قريب . ومن غرائب السهو ذكر الحافظ أن ما أهل به لغير الله مما حرم بعدها وهو فيها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية