( ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) سبق في هذه السورة وغيرها الجمع بين ذكر التوراة والقرآن للتذكير بالتشابه بينهما ; لأن العرب كانوا يعلمون أن اليهود المجاورين لهم أهل كتاب اسمه التوراة ، ولهم رسول اسمه موسى ، وأنهم أهل علم وشريعة ، وكان بعض عقلائهم يتمنى لو يؤتى العرب مثلما أوتي اليهود ويقولون : إنه لو جاءهم كتاب مثل كتابهم لكانوا أهدى منهم وأعظم انتفاعا ; لما يعتقدون من امتيازهم عليهم بالذكاء والعقل وعلو الهمة .
ولكن اختلف المفسرون في بدء هذه الآية بـ ( ثم ) التي تدل على تأخر ما عطف بها عما عطف عليه . فذهب إلى أن عطف على : ( ابن جرير قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) بحذف ( قل ) والتقدير : قل أيها الرسول لهؤلاء الناس : تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ووصاكم به وهو كذا وكذا - ثم قل لهم وأعلمهم أننا آتينا موسى الكتاب إلخ . وذهب إلى أنه عطف على ( وصاكم ) بطريق الالتفات بناء على أن هذه الوصايا قديمة وصى الله بها جميع الأمم على ألسنة أنبيائها . والتقدير : ( الزمخشري ذلكم وصاكم به ) على ألسنة الرسل ( ثم آتينا موسى الكتاب ) وهو أبعد في نظم الكلام مما قبله ، ويمكن إيضاحه بأن موسى أعطي الكتاب - بعد الوصايا العشر التي بمعنى هذه الوصايا - فيه تفصيل أحكام العبادات والمعاملات الشرعية ، كما أن أحكام القرآن التفصيلية تجيء بعد هذه الوصايا في السور المدنية - وحكى الحافظ ابن كثير رأي الإمام وتعقبه بأن فيه نظرا ، وقال : إن ( ثم ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر لا للترتيب كما قال الشاعر : ابن جرير
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده
وهاهنا لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) عطف بمدح التوراة ، وكثيرا ما يقرن سبحانه بين الكتابين [ ص: 178 ] كقوله : ( ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ) ( 46 : 12 ) وقوله أول هذه السورة : ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس ) ( 91 ) وبعدها ( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) الآية . انتهى المراد منه . وقد أورد شواهد أخرى من الآيات في هذه المقارنة .فهذا أحسن ما قيل في هذا العطف وكونه بـ ( ثم ) لخصناه بأقرب تصوير ، وقد نقل المفسرون الذين جاءوا بعد هؤلاء أقوالهم بتصرف ، جعلها في غاية التكلف ، كما نقل ابن كثير قول بإيجاز مخل لا يتبين به مراده ، وقال : إن فيه نظرا . ولم يبين وجهه ، وإنما رجح أن ( ثم ) لعطف الخبر على الخبر ، أي لا لعطف الإنشاء على الإنشاء كما جعلها ابن جرير . وفيه أن عطف الخبر بثم يراعى فيه الترتيب كما يراعى في عطف الإنشاء وعطف المفرد ، ولكن الترتيب قد يكون بحسب الزمان ، وقد يكون بحسب الذكر والانتقال من شيء إلى آخر كما قالوه في تفسير قوله تعالى : ( ابن جرير خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ) ( 39 : 6 ) والبيت الذي ذكره فيه ترتيب لتسلسل السيادة في بيت الممدوح بطريق الترقي بكونها كانت قبله في الأب ثم قبله في الجد . وفيه أيضا أن جملة ( آتينا موسى الكتاب ) فعلية ، وجملة ( وأن هذا صراطي مستقيما ) فيها قراءتان ، فهي جملة اسمية على إحداهما وهي قراءة من كسر همزة " إن " ، وإنشائية على الأخرى وهي قراءة من فتحها كما تقدم ، فكيف جعل ابن كثير عطف الجملة الفعلية عليها هو الصواب الذي لا مجال للنظر في صحته وفصاحته اللائقة بالتنزيل وجزم بأن عطف الجملة الإنشائية على مثلها فيه نظر مستغن عن البيان والتأويل ؟ والإنصاف أنه ليس في قول وقفة لصاحب الذوق السليم إلا تقدير كلمة ( قل ) ولكن قرينته ظاهرة . وأن أحسن ما قاله ابن جرير ابن كثير هو التذكير بما تكرر في القرآن من القران بينه وبين التوراة لما بينهما من التشابه في كون كل منهما شريعة كاملة ، والإنجيل والزبور ليسا كذلك ، بل أكثر الأول عظات وأمثال ، وأكثر الثاني ثناء ومناجاة .
ومن التشابه بين القرآن والتوراة أن هذه الوصايا التسع أو العشر في الآيات الثلاث ونظيرها في سورة الإسراء ، كانت من أول ما نزل بمكة قبل تفصيل كل شيء من أحكام العبادات والمعاملات في السورة المدنية ، كما أن الوصايا العشر المشهورة كانت أول ما نزل على موسى عليه السلام من أصول الدين قبل تفصيل سائر الأحكام المدنية ، ، فهي تبلغ العشرات إذا فصلت ، وقد روي عن ووصايا القرآن أجمع للمعاني أن وصايا سورة الأنعام هنا عين وصايا التوراة . والصواب ما قلناه آنفا ونحن نذكر نص [ ص: 179 ] وصايا التوراة من الفصل العشرين من سفر الخروج ليعرف به صحة قولنا وغش كعب الأحبار كعب للمسلمين وهو :
" أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية ( 1 ) لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ( 2 ) لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق ، ولا ما في الأرض من تحت ، ولا ما في الماء من تحت الأرض لا تسجد لهن ولا تعبدهن ، لأني أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي ، وأصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي ( 3 ) لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا ، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا ( 4 ) اذكر يوم السبت لتقدسه ، ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك ، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك ، لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك ، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها ، واستراح في اليوم السابع ; لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه ( 5 ) أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك ( 6 ) لا تقتل ( 7 ) لا تزن ( 8 ) لا تسرق ( 9 ) لا تشهد على قريبك شهادة زور ( 10 ) لا تشته بيت قريبك لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك " .
ولما كان جل هذه الوصايا وتلك هي أصول دين الله على ألسنة جميع رسله ، حكمنا بأن كلام الكشاف في تقديره العطف وجيه من جهة المعنى ، وإن كان الناظر إليه من جهة اللفظ وحده يعده تكلفا . ويؤيده قوله تعالى في سورة الشورى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ) ( 42 : 13 ) وليس الدين المشترك الذي شرعه الله تعالى موصيا به هؤلاء الرسل وغيرهم إلا التوحيد وأصول الفضائل والنهي عن كبائر الفواحش والمنكرات المذكورة .
ثم قال تعالى في نفس الآية : ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) كما قال في آخر وصايا الأنعام : ( ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) فبهذا التشابه يقوى كون الخطاب بالوصية لجميع البشر الذين بعث إليهم خاتم الرسل ، وكون المراد بها ما أشير إليه في آية الشورى .
وقوله تعالى : ( تماما على الذي أحسن ) معناه آتينا موسى الكتاب تماما للنعمة والكرامة على من أحسن في اتباعه واهتدى به ، كما قال في أواخر ما نزل من القرآن : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( 5 : 3 ) وقيل : إن المعنى آتيناه الكتاب تماما كاملا جامعا لما يحتاج إليه من الشريعة كقوله : [ ص: 180 ] ( وكتبنا له في الألواح من كل شيء ) ( 7 : 145 ) جزاء على إحسانه أو تماما على إحسانه - التقدير الأول لابن كثير ، وجعله من قبيل قوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ) ( 2 : 124 ) وقوله تعالى : ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) ( 32 : 24 ) والثاني عزاه إلى على جعل ( الذي ) مصدرية كقوله تعالى : ( ابن جرير وخضتم كالذي خاضوا ) ( 9 : 69 ) أي كخوضهم ، وقول في مدح النبي صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن رواحة
وثبت الله ما آتاك من حسن في المرسلين ونصرا كالذي نصروا
وقوله تعالى : ( وتفصيلا لكل شيء ) عام في بابه ، أي مفصلا لكل شيء من أحكام الشريعة كالعبادات والمعاملات المدنية والعقوبات والحرب ( وهدى ورحمة ) أي علما من أعلام الهداية وسببا من أسباب الرحمة لمن اهتدى به ( لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ) أي آتاه الكتاب جامعا لما ذكر ليعد به قومه ، ويجعلهم محل الرجاء للإيمان بلقاء الله تعالى في دار كرامته التي أعدها للمؤمنين المهتدين بوحيه .
( وهذا كتاب أنزلناه مبارك ) أي وهذا القرآن الذي يتلى عليكم كتاب عظيم القدر فتنكيره للتعظيم - أنزلناه كما أنزلنا الكتاب على موسى ، جامعا لكل أسباب الهداية الثابتة الدائمة النامية الزائدة على ما في كتاب موسى ، فالمبارك من البركة ، وهي الزيادة والنماء في الخير ، قيل : إنها من بركة الماء ، وقيل : من برك البعير وقد بينا من قبل مزايا القرآن على غيره من الكتب الإلهية ( فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ) أي فاتبعوا ما هداكم إليه ، واتقوا ما نهاكم عنه وحذركم إياه لتكون رحمته تعالى مرجوة لكم في الدنيا والآخرة ، فإن الكتاب هدى ورحمة كما صرح به فيما يلي تعليلا لإنزاله .